ناقد سوداني يؤكد أن ملكة الدار محمد سبقت الطيب صالح إلى القصة والرواية

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

 

هيثم الزبيدي

 

تكشف جردة الأحداث التي رسمت معالم العام الأول من عمر مجلة “الجديد” صعوبة المهمة. تكشف قائمة الموضوعات المنشورة في “الجديد” مدى الآمال التي نعقدها على الثقافة كجزء من الحلول لأزمات عالمنا اليوم.

المنطقة العربية تعوم على بحيرة من مشاكل كبرى تبدو عصية على القراءة، دع عنك إيجاد الحلول. كلما حاولنا الوصول إلى استنتاجات مهما كانت أولية لطبيعة المشكلات، كلما دخلت عوامل إضافية تجعل من الصعب إيجاد قراءة صحيحة للوضع.

 

المشكلة صميمية وعميقة، أعمق مما كان أغلبنا يعتقد. وهذا يتطلب جهدا فكريا وثقافيا حقيقيا وليس فقط مساهمات تبدو من باب الاستطراق أكثر منها نظرة لسبر طلاسم المشكلة.

 

تساعدنا القراءة الثقافية للمشكلة بعض الشيء حتى وإن كانت لا تقدم حلولا شاملة. القراءات التي حفلت بها المجلة على مدى العام تصب في هذا الإطار.

 

لعل من المفيد الإشارة إلى طبيعة المصاعب.

 

لنبدأ من عصر الاستعمار أولا. كانت الثقافة تعيش عصرا ذهبيا لأن الخطوط الفاصلة بين القضايا المختلفة كانت واضحة المعالم. كان الاستعمار حالة سهلة التشخيص ومسألة لا تحتمل الأخذ والرد كثيرا.

 

الفعل الثقافي كان واعيا بمسألة التحرر الوطني والاستقلال وكان من السهل عليه أن يقف ويقول كلمته. كان الاستعمار نفسه يقف عاجزا عن التدخل في هذا الأمر لأنه إن تدخل فإنه يكون قد انتهك منظومته الثقافية والفكرية نفسها، وهي التي تدعو إلى الحرية والمسؤولية.

 

المثقف كان يقول كلمته ويجد تجاوبا فعالا لا يكون محصورا في النخبة، بل يجد أصداء عند الطبقة الصاعدة التي أفرزها الحراك الاقتصادي والاجتماعي في فترة ما بين الحربين العالميتين. كان المثقف العربي يجد من يصفق له حتى في بلد الاستعمار.

 

نهل عصر الاستقلال الأوّلي من تركة عهد الاستعمار. مثقفو صدر الاستقلال كانوا هم أنفسهم مثقفو نهايات عصر الاستعمار. حملوا معهم الكثير من انفتاح الغرب المستعمر واستطاعوا بشكل لافت الإتيان بتوليفة حيوية للإنجاز الثقافي. الشاهد، تلك الأدبيات من رواية وشعر وفكر وتلك الإنجازات السينمائية والغنائية والمسرحية. انظر إلى تركة المشهد التشكيلي لذلك العصر لتعرف كم كان الأوائل مبدعين.

 

 

في مرحلة الاستقلال، وهي المرحلة الثقافية الثانية، تعثّر المشروع مع تقدم السياسي على الثقافي. سيطرت النخب السياسية، وخصوصا التي وصلت إلى السياسة من بوابات وزارات الدفاع وثكنات الجيش، على كل مفاصل الحياة.

 

دخلنا عصر “الثقافة” العضوية التي يجب أن تقوم بمهمة واضحة المعالم في دعم النظام السياسي. صار يمكن أن تشاهد لوحة لرسام بعنوان “مواطن يستمع إلى خطاب الزعيم من الراديو”. إنه النفاق بلا حدود لسلطة وجدت نفسها تغير كل شيء بلا حدود. جاء التلفزيون ليصبح الأداة الجديدة والمبتكرة لتحويل الفكر والثقافة إلى منهج للسيطرة وحسم الجدل وتوجيه العقول.

 

الأوجه القومية واليسارية والعسكرية للحكم في العالم العربي كانت مكشوفة حتى لدى الذين يسبّحون بحمدها. كان أصحاب المديح يدركون في قرارة أنفسهم أن ما يقولونه فيه الكثير من الافتعال.

 

بتقادم السلطة العربية وتراخي قبضتها، صار الخطاب المفتعل “للنخبة” المثقفة أعجز من أن يقنع أيّ صغير. اكتشفت السلطة بدورها أن ما عاد من أحد يصدق ما تقوله، مهما حاولت من افتعال وتجميل.

 

المواطن العادي، الذي أصبح أكثر وعيا واطّلاعا، يعرف تماما أن سنوات التطبيل لم تترك أيّ أثر في نفسه، وسرعان ما تزعزع ما تبقى من مهابة للسلطة مع تراجع إمكانات الدولة المالية والأمنية. كنا قد دخلنا ما صار يعرف بـ”الربيع العربي”.

 

الشكل الثالث لواقع الثقافة في عالمنا العربي مختلف تماما. أعيد تأسيس الوعي على معطيات دينية. هذا التأسيس أعمق كثيرا من تأثير المستعمر أو المثقف المنفتح أو المثقف العضوي الذي تحركه السلطة.

 

الانطلاقة الدينية الاجتماعية لإعادة التأسيس، تحوّلت بمرور الوقت إلى وجهة الإسلام السياسي بأشكال إخوانية أو سلفية أو خمينية. ولأنها مرتبطة بالدين، فإنها غارت عميقا في نفوس الناس وصار من الصعب على كثيرين ممن تثقفوا في المساجد والأركان والحسينيات ولاحقا من على شاشات الفضائيات الدعوية، أن يتمكنوا من تمييز الفرق بين السياسي والديني. هذه ثقافة تتقصّد إذابة الحدود لتصبح نمطا حياتيا وليست مجرد توجهات فكرية.

 

هذا ما يحيلنا إلى اللحظة الراهنة وصعوبة الشأن الثقافي. كنت كمثقف، تستطيع تشخيص مشكلة الاستعمار أو الأيديولوجية أو الطغيان بسهولة وأن تحث الناس على النظر إليها كشيء منفصل. الآن قد يصبح أبسط خوض في المسلّمات الثقافية هو موقف يُفهم أو يُفسّر على أنه موقف من الدين.

 

لا يزال من المبكّر لمطبوعة مثل “الجديد” أن تقول إنها في مسار النجاح في الخوض في الشأن الثقافي الراهن. هذا ما يدعونا إلى الاستمرار في المحاولة.

 المصدر: العرب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى