«نجف» زهير الجزائري مدينة الشعراء الصعاليك

الجسرة الثقافية الالكترونية

*علي عبد الأمير

المصدر: الحياة

 

ليسوا قلة أولئك العراقيون، الذي لا يرون في النجف، غير «أكبر مقبرة في العالم»، وهي كذلك حقاً، فبجـــوار ضريح الإمام علي بن أبي طالب، يحلو للشيعة في العراق والعالم أن يناموا بسلام نهائي، الى حدّ أن هذه لا تبدو صورة نمطية، بل هي متجددة وفاعلة، قدر ما يعنيه موت فسيح مستدام يكب في باطن رملي جثث الموتى أو العباد، مثلما هي صورة تكاد تضيق بأي ملمح للحياة في فسحتها وغناها. لكن هناك من يأتي بدلائل حقيقية على افتقار تلك الصورة الى نبض الحقيقة وروحها المتوقدة، ومن هنا مأثرة الروائي والكاتب، وابن النجف زهير الجزائري، الذي غادرها وهو في العشرين من عمره، وغادر العراق بعد أربعة عشر عاماً، «متنقلاً بين خمسة منافٍ واثنين وأربعين بيتاً وسبعة أماكن عمل وثلاث زوجات. بدّلت حياتي وشكلي ولهجتي ولغتي مرات، وكنت خلال تنقّلي في المنافي أستبدل مع الغرف حياة بحياة وأزيح المدن تباعاً من ذاكرتي، لأهيئ نفسي للمدينة الجديدة».

إنه إذاً، ابن اللامدينة، وبعد أربعة عقود يترك مدن المنفى ويعود الى المدينة الأولى، «قابضاً بأصابعي على مقعد السيارة، وبذاكرتي على تلك المدينة، لأراها بعين الحاضر»، عين مأسورة في قدرتها البصرية بـ «ثلاثة مخاوف: النسيان، اللوم والموت. لن يعرفني الناس في المدينة بعد هذا الغياب، فقد هاجر أبناؤها القدامى الى بغداد، مغادرين مدينة الكلام الى مدينة النقود، وسيلومني الباقي لأنني تركتهم في أيام الفجيعة وأعود متأخراً، حين لم يبقَ غير الرماد والجنائز».

يناكف الكاتب فكرة العراقيين السائدة عن مدينته، فهي ليست قرينة الموت، بل «مدينة الكلام»، وهو محقّ في هذا، أليس الجواهري «شاعر العرب الأكبر»، ابنها؟ أليس آل الجزائري، الذين يعود الكاتب إليهم، هم سادة الكلام وفيوضاته شعراً وفقهاً وتأويلاً فكرياً؟

هنا تبدأ حكايات الحياة في المدينة – المقبرة، «يرى الزائر القباب الذهبية، والأبواب الفضية المطعّمة بآيات من ذهب، وستغشي بصره أنوار المرقد وقد عكستها مقرنصات من مرايا متناظرة». لكن صاحب رواية «حافة القيامة»، يزيح شيئاً فشيئاً الصورة الثابتة ويفكّك عناصرها، فالزائرون الذين «ستبعدهم أصوات مرتّلي الأدعية وتوسلات الممسكين بشباك الضريح عن سماع الأحاديث الرخيصة، وأحاديث السياسة السرية في مقاهي المدينة، ومعارك الجنازين حول حصّتهم من دفن الموتى»، يكرسون معنى المقبرة، إن بصيغة أو أخرى، لكن الجزائري، يأخذنا الى الحياة: «أعجب كيف أن هذه المدينة شكّلتني ولم تشكّلني على لهفة زوارها المؤمنين! كيف أن قدسيّتها لم تمنع تشكّل جيل من أبنائها العلمانيين».

أبناء النجف العلمانيون ومنهم والد الكاتب، المعارض السياسي، «بعد أقل من عام من زواجهما نفي والدي المعلم، بسبب نشاطه المعارض، الى سدة الهندية. هناك في المنفى ولدت أنا، زهير ابن علي الجزائري»، ولخصب الإيقاع الذي كانت عليه حياتهم: أبناء المقبرة المفتونون بالحياة الجديدة عبر المعرفة المعاصرة، أورثوا الأبناء حياة أشبه بالأحلام: «منذ طفولتي وقبل أن أصبح روائياً، تختلط عندي الأحلام بالواقع اختلاطاً لا فكاك منه، وأحيانا تفوقه صلابة ولوناً».هذا النسيج النادر في كتاب «النجف الذاكرة والمدينة» الصادر حديثاً عن «دار المدى»، هو الثالث المنتظم في مجال السيرة بعد «مذكرات شاهد حرب» عن أيام الجزائري وتجاربه مع الفلسطينيين والحرب الأهلية اللبنانية، و «حرب العاجز»، عن المدينة الأثيرة التالية: بغداد في علوها المعرفي والإنساني حين جاءها وهو في العشرين، وانحطاطها وقد عاد إليها أثر الغزو الأميركي وسقوط النظام الذي عارضه طويلاً بالفكرة والموقف السياسي والصحافي. ولأنه قصد تحية التفاصيل الإنسانية الحية في مدينة الرمل والملح والموتى، لذا لم يجد غضاضة في الاستعانة بـ «نجفيين» أحياء لتقشير المقدس عن وجه المدينة وصولاً الى كونها أرض حياة وأحزاب سياسية وصراعات، وعالم النساء المخفي وراء جدران البيوت العالية، وغالبية ملامح «الوجود العلماني الضائع تحت وطأة المقدس».

النجف، هي أيضا مدينة الشعراء، ألم يقل الجزائري عنها «مدينة الكلام»، ومنهم الشاعر الراحل عبد الأمير الحصيري، الذي رافقه المؤلف منذ الدراسة الابتدائية، وتوقف عند نباهته وبخاصة مواهبه بحفظ عيون قصائد الشعر العربي، فضلاً عن أخرى شعبية تتّصل بالمأتم الحسيني، ليجد ملاذه في بغداد، وبرفقة شاعر وجودي مثل حسين مردان، وقاصّ عبثي المزاج والفكر مثل القاص نزار عباس. انقلبت حياة ابن النجف الموهوب ليصبح الشاعر الشريد المعاقر، حدّ إفناء جسده وقبله موهبة شعرية كبرى. وتناسقاً مع غرابة مآل كهذا، ثمة «علماني ينحدر من عائلة دينية عريقة، يمسك بيده كأس خمر يخفيه ولا يخفيه أمام أفراد عائلتهن ليشربه منتشياً بالخمر وبخطابات جمال عبد الناصر الذي كان يؤيده وأغاني أم كلثوم».

الناس، الأمكنة، الحوادث والشهود عليها، كلها جاءت وفق بناء قارب السرد تقنياً وغنى الرواية نسقاً في تعقّب المصائر، ما وفر عن النجف «وثيقة درامية» مدهشة، هي ذخيرة لأعمال فنية في السينما والتلفزة عن المدينة التي يتآخى فيها المقدس مع الإثم، الورع مع الفجور، رمال الموت وأملاحه قرب سهل خفيض من ظلال ندية لبساتين النخيل. وما يؤكد هذا المنحى الوثائقي الدرامي، أن ابن عائلة الجزائري الراسخة في علوم الدين والفقه، ثم انزياح بعض أبنائها حدّ «الجنوح» الى العلمانية، لا يقدم سردياته وفقاً لمنظور سياسي وفكري ضيق، بل اعتماداً على احتفاء، لم يهدأ إيقاعه، بالحياة على منوال يبدأ من كونه «حفيد المرجع الديني الكبير عبدالكريم الجزائري»، ومفارقة كونه من «شيوعيين، أغلبهم جاء من صلب العوائل الدينية، وكانوا واعين مهمتهم الصعبة في هذه المدينة المقدسة»، غلبت علــيهـــم حياة الشظف والقسوة والعذاب، وصولاً الــــى سادة المدينة اليوم: قادة أحزاب السلطة «الدينية السياسية»، إنها حقا لتبدو «المدينة – المتاهة» التي فيها «تجاورت أكثر المحرمات صرامة وأكثر الأفكار انفتاحاً. مدينة حائرة بين حاجتها الى الخروج من أسوارها، لكنها تهدم سوراً لتبني سوراً جديداً».

ومثلما بدأ صاحب رواية «الخائف والمخيف» كتابه عن النجف بسؤال: من سيعرفني في المدينة؟ فإنه يقارب الأمر ذاته وهو يهمّ بمغاردتها: «أغادر المدينة وأعيد سؤال البداية: ماذا تبقى من «النجف» فيّ، وماذا تبقى مني فيها»؟ وبعيداً من السؤال، فإنه قدم المدينة وثيقة نادرة ونابضة بالحياة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى