نحو أمن لغوي عربي حفاظاً على الهوية

بسام بركة
كثر الحديث في السنوات الأخيرة عن المشاكل التي يتعرض لها الإنسان المعاصر في محيطه الطبيعي والاجتماعي. فهناك دعوات كثيرة إلى الاهتمام بالأمن الغذائي والأمن الاقتصادي، وكذلك الأمن البيئي. ذلك أن ازدياد عدد سكان العالم وانبعاثات ثاني أوكسيد الكربون المتزايدة في العالم الصناعي أدتا إلى إثارة القلق في مصير الإنسان ومستقبله على صعد الحياة كافة: الطعام، الهواء، البيئة…
هذه أمور ترتبط بالبشرية جمعاء ولا تفرق بين أمة وأخرى. لكن الاختلاف بين الأمم والاحتكاك المباشر والافتراضي في ما بينها واعتداد كل واحدة منها بتراثها وماضيها والخوف على الهوية والكيان الخاص، كل ذلك أدى إلى ظهور الاهتمام لدى المجتمعات والأمم بالأمن الديموغرافي والأمن القومي وغير ذلك.
إلا أن قليلاً من الناس من تحدث عن الأمن اللغوي في هذا المجال. فعلماء اللسانيات يؤكدون العلاقة الوطيدة بين اللغة الأم وطريقة رؤية المرء لعالمه، وارتباط اللغة بالهوية، وهذا ما تجرأ عليه عبدالسلام المسدّي الذي يدافع منذ زمن طويل عن اللغة العربية وضرورة الحفاظ عليها والتداول بها. فبعد أن أصدر كتاباً في عنوان «العرب والانتحار اللغوي» (دار الكتاب الجديد المتحدة، 2010) أصدر كتاباً في عنوان «الهوية العربية والأمن اللغوي: دراسة وتوثيق». وإذا كان المؤلف يتحدث فيه عن أمن اللغة العربية، فذلك لأنه يعي تماماً مواقف الصراع التي تتخبط فيها لغة الضاد، ما قد يؤدي إلى تشرذمها وفقدانها دورها التاريخي في المعرفة العربية والإسلامية، وبالتالي فقدان روحها ومقوماتها المعيشية والاجتماعية والثقافية والقومية، خصوصاً أن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة أشارت إلى أن اللغة العربية تقف على حافة الانقراض، كما أكدت وجود خطر يهدد اللغة العربية في مناسبات عدة من أهمها ما صدر عنها في حزيران (يونيو) 2006، وتشرين الأول (أكتوبر) 2007، وأيار (مايو) 2012.
تكمن أهمية كتاب المسدّي في أنه يتناول مسألة ارتباط اللغة العربية بكل مستويات الحياة عند المواطن العربي، فاللغة في نظره تؤثر بالهوية والشخصية والوعي والفكر والمعرفة، كما أن كل هذه المستويات الإنسانية تتأثر هي أيضاً باللغة وتراكيبها. فالعلاقات بين هذه وتلك حميمة ومتبادلة.
وكما ينص عليه بحق العنوان الفرعي «دراسة وتوثيق»، يتصف هذا الكتاب بأنه ذو بعـــدين اثنين. أولاً: البعد اللساني الذي يتنـــاول العلاقة بين اللغة العربية والقومية بـكــــل وجـــوهها، اجتماعياً وفردياً، وثانياً: هو أنه يــوثق بدقة وأمانة لمواقف العرب، حكومات ومــؤسسات، مجتمعين ومتفرقين، تجاه الخطر الداهم على مستقبل اللغة العربية. وذلك مع ذكر المقررات والتوصيات وغيرها من النتائج التي توصل إليها العرب من أجل الدفاع عن لغة الضاد والعمل على تطوير استعمالها.
يقدم المسدّي دراسة دقيقة ومفصلة للأخطـــار المحيقـــة بلغة العرب، فهي «تستجير بهم منذ عقود أن أدركوني هتفت بهم همساً منذ أيام الاستعمار، ثم صاحت عند انقشاع غمته، وها هي لا تبرح تشكو وتستغيث» (ص 12).
هناك أخطار تأتي من الخارج، وهذا أمر نستطيع أن نقول فيه أنه «طبيعي» نظراً إلى كثرة الأعداء الذين يكيدون للعرب ولغتهم وهويتهم. إلا أن الخطر الأكبر يكمن في أعداء الداخل، من مثل أولئك الذين يطالبون باعتماد اللهجات الدارجة في تعليم العربية في المدارس، أو ينادون باستعمال اللغات الأجنبية عوضاً عن العربية في مراحل التدريس الأساسي والتعليم الجامعي، فهم يشنون «حرباً صامتة» أحياناً وعلنية أحايين أخرى ضد تطوير اللغة العربية وضد استعمالها والتواصل بواسطتها في مختلف المواقف العلمية والمعرفية والأكاديمية.
وإذا كان أعداء اللغة العربية كثراً، فإن ذلك يعود لأسباب عدة من أهمها، كما يقول المسدّي، أنه «لأول مرة في تاريخ البشرية – على ما نعلمه من التاريخ الموثوق به – يكتب للسان طبيعي أن يعمر حوالى سبعة عشر قرناً محتفظاً بمنظومته الصوتية والصرفية والنحوية، فيطوعها جميعاً ليواكب التطور الحتمي في الدلالات دون أن يتزعزع النظام الثلاثي من داخله. بينما يشهد العلم في اللسانيات التاريخية أن الأربعة قرون كانت فيما مضى هي الحد الأقصى الذي يبدأ بعده التغير التدريجي لمكونات المنظومة اللغوية» (ص 265).
لقد أصدر المسؤولون العرب عدداً كبيراً من القرارات والتوصيات دفاعاً عن اللغة العربية. هذا صحيح. إلا أن المؤلف يرى أن كل هذه القرارات قد بقيت بمعظمها حبراً على ورق. فهو بعد أن يرصد حركات المطالبة بالدفاع عن اللغة العربية، هنا وهناك، ينتهي بنظرة إن لم تكن متشائمة تمام التشاؤم فإنها لا تبشر برؤية بصيص الأمل في نهاية النفق الذي نعيش فيه.
فهو، بعد أن يتساءل عما إذا كانت العربية تخوض صراعات مريرة أو أنها تنغمس في ما يسمى حروب اللغات التي تؤدي إلى «موت» بعضها، يقول: «ما من شك أن غياب الحقائق يفضي إلى تعطل القدرة على استشراف التاريخ، وعلى استنظار منحنياته القادمة وبما قد تأتي به الأحداث المتعاقبة. وقد سبق لنا أن حفرنا في أعماق العلل التي دفعت بالخيال العربي إلى التسليم بتأويل خاص حمل العقيدة أكثر مما جاءت به وأكثر مما تطيقه نصوصها» (ص 261).
إن الصورة التي يقدمها المسدّي للواقع العربي ولوسائل تدبر العرب للغتهم ومصيرهم إنما هي صورةٌ على مقدار كبير من التشاؤم. فهو ينتهي في الفصل الأخير من كتابه إلى أن يقول: «ما من خلاف حول أمر متعين بالضرورة، وهو أن «الوعي المعرفي» بمصير اللغة العربية، واحتمال انحجابها التدريجي من مجال التداول، وإمكان التحاقها بالألسنة الفاقدة مقومات الحياة الإجرائية الفاعلة، غائب أو كالغائب في واقعنا السياسي والفكري» (ص 387).
على رغم أن عبدالسلام المسدّي لا يجانب الصواب في الكثير من النتائج التي يتوصل إليها، إلا أننا لا نشاركه في ظلامية الصورة التي يقدمها في بعض مواقع كتابه لواقع اللغة العربية. فهو لا يعطي مكانة كبيرة لنشاط عدد كبير من المؤسسات التي تقوم بدعم المعرفة العربية، وبالتالي بدعم لغتها وذلك عبر نشر الكتب، المترجمة وغير المترجمة، وعقد المؤتمرات والندوات، وإطلاق التوصيات والمطالبات بضرورة العمل من أجل صون حسن استعمال اللغة العربية وضمان تداولها. وليس أقل هذه المؤسسات: مؤسسة الفكر العربي، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، المنظمة العربية للترجمة، مكتب تنسيق التعريب، المجلس العالمي للغة العربية… إلخ، هذا إضافة إلى الكثير من الجوائز القيمة التي تقدم لأصحاب الأعمال التي ترفع اللغة العربية استعمالاً وتداولاً وترجمة.
إلا أن المسدّي لا يفوت تماماً مثل هذه الوقائع، فهو يوثقها في جملة ما يوثق. ولكنه، على ما نرى، يسلط الأضواء على الأخطار الكبيرة التي تحيق بلغتنا لأنه يبغي قبل كل شيء التشديد على أن خلاص اللغة العربية يجب أن يكون بالفعل لا بالقول. ومن أهم ما يقترحه هو أن يعود العرب إلى مشروع الرصيد اللغوي الذي بدأ العمل به منذ عدة عقود، فهذا «سيكون خطوة إجرائية مكينة يتأسس عليه التخطيط الاستراتيجي لمشروع النهوض باللغة العربية» (ص 212).
عبدالسلام المسدّي أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية، وهو عضو في مجامع لغوية عربية كثيرة، وتولى الأمانة العامة لاتحاد الكتاب التونسيين، كما تقلد وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في تونس، لكن الأهم من هذا وذاك أنه وضع الكثير من المؤلفات التي تعد من أسس المكتبة العربية، إذ إنه يحلل فيها تحليلاً عميقاً مواضيع رئيسة في اللغة والأدب والنقد واللسانيات والفكر والسياسة.