نحو العالمية

سهام جاسم
Latest posts by سهام جاسم (see all)

في تلك المساحات البعيدة الشاسعة من الكرة الأرضية حيث يتعذر علينا الوصول إليها دون وسائل مواصلات حديثة يكمن ذلك العالم الغريب الممتد الذي نجهل ونطمح أن نُوجِد لثقافتنا وأدبنا وفنوننا دربًا سريعًا ليصل بيننا وبين ذائقة تلك الشعوب كنوع من التبادل الثقافي والتعارف الفكري واطلاع الآخر على ثقافتنا ونشرها، بلا شك أننا نستطيع الوصول إلى حيث هم والعيش في أيّ بقعة بعيدة جسدًا وروحًا ككلّ الغرباء، لكن كيف يمكن لأفكارنا أن تصل وتجد وجدانًا وفكرًا آخر يحتويها لتنضم لمنظومة هذا العالم المتحضر ولا تبدو هي أيضًا نامية مستثناة ومستهجنة من قبل أفراد وشعوب تلك الأمم المتقدمة؟!

تحدث أحد المهتمين حول ضرورة اقتناص تلك الأفكار التي تعد قضايا إنسانية عامة في الأدب والفن، والتمييز في الطرح بين ما هو محلي وبين ما هو شأن عام بمقدورنا طرحه للعالم لإيجاد لغة وفكرة يفهمها ويتفاعل معها في الوقت نفسه وذلك كلّه بهدف الارتقاء في الطرح وبلوغ العالمية، في تلك الأثناء لمحت في حديثه نوعًا من التخلي عن الهوية بشكل أو بآخر وتجاهلًا لعمق التجربة بل وتناسٍ للصدق الفني وذلك كله لأجل أن يتمكن أي فنان أو أديب أو أي مشتغل في الفن من الوصول لتلك الذائقة في أقصى سموها، ولاحت لي عبارة (الشاعر ابن بيئته) بالشيء الكثير الذي تضمه من معاني انتماء الأنا للمكان بل عمق التمسك بالإرث الإنساني الذي تقتنيه.

وفي الحقيقة ليس الشاعر فقط هو من يستحق أن نطلق عليه ابن بيئته معللين تلك الحظوة بمشاهدة العديد من مظاهرها في قصائده إنّما سائر المشتغلين بالأدب والفنون وحتى الحرف كلّها، جميعهم أبناء بيئتهم بلا شك! إذ أننا لابد وأن نرى ذلك الأثر الواضح للمسة تدل على الثقافة التي ينهل منها.

إنّ الوصول للعالمية لا يتأتى إلا بما نظنه أمرًا محليًا شديد الخصوصية والانغلاق وقد يستغربه الآخر، في حين نكاد نجزم على أنّه يستحيل حدوثه إلا لدينا وذلك ظنٌ مبدئي، بينما تجد الآخر يبحث من خلالك عن ذلك الجديد الذي يُضاف إلى خبرته بل ويتطلع بشغف لرؤية صورة مختلفة من صور الإبداع عن تلك التي اعتاد رؤيتها حوله.

إنّ الهويَّة الإنسانية، هويَّة المكان والتاريخ والثقافة والتراث القديم الذي ننقل شيئًا منه لتتزود به أجيالنا في إقبالها الوديع الواعد على الحياة هي البصمة الحقيقية لوجودنا في هذا العالم وتلك البصمة يعرفها جيدًا من يملك ذلك الاعتزاز الأصيل بقيمه الإنسانية وهي نفسها تمتلك فطريًا تلك القدرة على الاحتواء الإنساني لثقافة الآخر وإن اختلف شيءٌ من طبيعة الحياة إذ يظل الفكر والوجدان الإنساني قادرين على الاستيعاب والتواصل بديمومة.

كما أنّ هذا الاختلاف والتباين بين الشعوب في أفكارها ومعتقداتها وبما تملكه من ميثولوجيا متجذرة حتى الأعماق وأيديولوجيا مهيمنة أظن أنّ ذلك تحديدًا هو ما يجب أن يراه العالم منا، إنّه الجانب المختلف المُثري.

وإلا فما جدوى ذلك التمايز بين الشعوب إذا كنا نريد أن نظهر بشكل وصورة ومحتوى نتقرب به من ملامح الآخر وصورته ونقدمه كقرابين لكسب الود والقبول وانتزاع الإعجاب؟

لكن يظل هنالك سؤال يكرر طرح نفسه هل قاموا هم بالبحث لثقافتهم عن صورةٍ مقاربةٍ لنا لينالوا الحظوة بالود والقبول لنرد عليهم بالمثل؟

ذكر المستشرق الروسي إغناطيوس كراتشكوفسكي كتاب ألف ليلة وليلة للاستدلال على أشهر الأعمال المترجمة إلى اللغات الأوروبية بما يحمله من ثقافة عربية في كل ليلةٍ من تلك الليالي الشرقية وتلك الأشعار التي تزامنت مع نصوصها وانسابت في ثناياها وإثر ذلك كله حازت شخصياته على أدوار البطولة حتى يومنا هذا في أفلام هوليود وبقيت ملهمة في صناعة السينما لديهم.

ذلك على الرغم من أنّها لم تكن تحمل تلك الصورة المقاربة مطلقًا لهم ولكنها أبهرتهم ومازالت قادرة على الاستمرارية في ذلك الفعل.

كما أنّ أولاد حارتنا لنجيب محفوظ قدِمت للعالمية من أروقة الأحياء الشعبية وأزقتها.

ومن خلال الأدب المقارن نتعلم كم هي الشعوب متقاربة بل ومتشابهة فانظر لوجه الشبه ما بين عطيل وديدمونة لدى شكسبير وديك الجن وورد وما بين قيس وليلى وشيرين وناصر خسرو في الأدب الفارسي.

ألا ترى أنّ الانكفاء على الذات وقوقعة الفكرة في نطاق جغرافي محلي مخافة عدم استحسان واستساغة ذائقة الآخر ليس عيبًا في الفكرة نفسها أو الطرح إنما في تلك الحساسية التي نجدها لدى من يقوم على مهمة التواصل والتفاعل مع الآخر؟.

قبل النهايـــة:

العالم يحتوينا جميعَنا بكلِّ اختلافاتنا، لأننا نحن والآخر نمثله معًا!

مجلة الجسرة الثقافية – العدد 60

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى