«نداء الكوكو» لروبرت غالبريث.. متعة الأدب البوليسي

الجسرة الثقافية الالكترونية
*نديم جرجورة
المصدر: السفير
لا أعرف سبباً يدفع كاتبة، لها حضور كبير وطاغ في المشهد الأدبي ـ الثقافي الدولي، إلى استخدام اسم مستعار لرواية جديدة لها. ج. ك. رولينغ (1965) ـ صاحبة السلسلة الروائية الخيالية «هاري بوتر»، المتحوّلة إلى سلسلة سينمائية أنتجت مليارات الدولارات الأميركية كإيرادات دولية ـ تُصدر، باسم آخر، رواية بعنوان «نداء الكوكو» (نقلها من الإنكليزية عمر سعيد الأيوبي، «منشورات نوفل، دمغة الناشر هاشيت أنطوان»، بيروت، 2015، علماً بأن النصّ الأصليّ صادر في العام 2013)، هي الثانية لها بعد «هاري بوتر». الأولى بعنوان «منصب شاغر» (2012 للطبعة الأصلية، 2013 للترجمة العربية عن الدار نفسها بتوقيع دانيال صالح. «السفير»، 10 أيلول 2013): قراءة أدبية سَلِسة عن بيئة اجتماعية إنكليزية بمشاكلها ومتاهاتها وقلق ناسها وعلاقاتهم الملتبسة والغامضة والضائعة بين صرامة تقليد وشيء يُشبه العنصرية، بالإضافة إلى خراب فظيع يُصيب الجميع، نفسياً وروحياً ومعنوياً وإنسانياً.
مارغريت ألفان توضح ـ في مقالة لها منشورة في الصحيفة الفرنسية اليومية «لو فيغارو» (26 تموز 2013) ـ لماذا اختارت رولينغ اسم روبرت غالبريث لـ»نداء الكوكو». تقول إن 3 أسباب كامنة وراء الاستعانة باسم مستعار: رغبة الكاتبة في انطلاقة جديدة كلّياً بعد «هاري بوتر»، وإن ظلّت محتفظة باسمها الحقيقي على غلاف روايتها السابقة «منصب شاغر». ميلها إلى هوية جديدة، خصوصاً أنها أرادت دائماً أن يكون اسمها إلاّ غالبريث، بينما اختارت روبرت كاسم اول لها كتحية للسياسيّ الذي تُحبّه كثيراً: روبرت ف. كينيدي (1025 ـ 1968). المنحى التجاري، لاعتقادها بقوّة الاسم المستعار، مؤكّدة أن محطّتين تلفزيونيتين أعلنتا عن رغبة في اقتباس الرواية قبل معرفة الاسم الحقيقي لـ»كاتبها»، علماً بأن 8500 نسخة بيعت قبل أن تُعلن الصحيفة الإنكليزية اليومية «صانداي تايمز» الهوية الحقيقية لغالبريث.
بعيداً عن هذا كلّه، فإن «نداء الكوكو» مختلفٌ تماماً عن الأعمال السابقة لرولينغ. لكن، ليكن اسم مؤلّفها روبرت غالبريث، كما على الغلافين الإنكليزي والعربيّ. رواية بوليسية بامتياز. لكنها أيضاً رواية ترسم ملامح شوارع ومدن إنكليزية، وتقدّم صُوَراً عن معانٍ مختلفة للحبّ والعلاقات «السرّية» في كواليس عائلات ثرية، وتُبرز جوانب من الحياة البائسة لأفراد يتامى يُصبحون أبناء عائلات ثرية بالتبنّي. المحور الرئيسي: انتحار عارضة أزياء سوداء تُدعى لولا لاندري. أخوها بالتبّني المحامي جون بريستو يُشكّك في فرضية الانتحار، فيُكلّف المحقّق الخاصّ كورموران سترايك نبش «حقيقة» الحادثة. المُساعِدة الموقتة لسترايك تُدعى روبن إلاكوت. هذه الشخصيات أساسية. هناك أناس عديدون يستكملون المشهد. معنيون بالضحية مباشرة أو غير مباشرة. معنيون أيضاً بالشخصيات الأساسية. مرتبطون بعضهم ببعض، بشكل أو بآخر. لكل شخصية حكايتها، سواء مع الضحية والانتحار الملتبس أو مع غيرها. لكل شخصية مسارها، عبر الحادثة أو حولها أو خارجها. المحقّق طالعٌ حديثاً من أزمة عاطفية حادّة. روبن مخطوبة، وخطوبتها «الجميلة» تعاني قلقاً وارتباكاً وتوتراً بسبب عملها مع سترايك تحديداً. المحامي عنصرٌ فاعل ومؤثّر في اللعبة كلّها، واللحظة التي تنبني عليها الحكايات كلّها. هناك أيضاً والدته المريضة، وخاله المثير حوله ألف غموض والتباس. هناك المحيطون بلولا في العمل والمبنى السكنيّ والحياة اليومية: مصمّمو أزياء، ومساعدون ومنتجون وجيران، وأصدقاء وأحبّة. هناك أيضاً عوالم متفرّقة: الأزياء والمخدرات والأعمال والمال، والصراعات المنبثقة منها.
«هذه الرواية تذكّرني لمَ عشقتُ الأدب البوليسي في الأساس». تعبير متعلّق بـ»نداء الكوكو» للكاتبة البوليسية الإسكتلندية فال ماكدورميد (1955). قراءة الرواية، بترجمتها العربية المتماسكة (على الرغم من هنات قليلة جداً في صوغ جملة من هنا، أو في تعبير لفظي من هناك)، متعة حقيقية تُعيد للأدب البوليسي شيئاً من حيويته وبراعته في الوصف والتنقيب ومعاينة النفوس والقصص، كما في جماله السرديّ في رسمه ملامح أناس وبيئة وتفاصيل. الانتحار بحدّ ذاته مدخلٌ إلى العوالم المتفرّقة هذه. مدخلٌ إلى سيرة التبنّي والعلاقة القائمة بين سود وبيض في طبقة اجتماعية بورجوازية وثرية، وفي عائلة ممزّقة داخلياً، فإذا بالانتحار (هل هو انتحار فعليّ، أو ماذا؟) يكشف حقائق ويفضح خفايا. سلاسة السرد مُضافة إلى بناء متماسك للحبكة ومساراتها، وللشخصيات وتفاعلاتها وانفعالاتها، وللمناخ العام (النفسي والجسدي والمعنوي والبيئي) وتبدّلاته. المفردات البوليسية في الكتابة الأدبية حاضرة أيضاً: تحقيق، بحث وتنقيب، لقاءات، مطاردات، تنظيم مكائد لتبيان مسألة أو أكثر، تحريات سرية، احتيالات مدروسة لبلوغ مُراد ما، إلخ.
كشف حقيقة الحادثة الأساسية متروكٌ للنهاية طبعاً. لكن متابعة حكاية كورموران سترايك (المحور الرئيسي للرواية، التي تبدأ بالانتحار، وبتقديم شخصية أساسية أخرى هي المُساعِدة الموقتة له روبن) في حياته المهنية والذاتية دعوة إلى شعور بمتعة الاسترخاء أمام نصّ مبنيّ على أصول الكتابة البوليسية، المطعّمة بتحليل نفسي اجتماعي متنوّع أحياناً، وعلى أسئلة الفرد في صراعاته اليومية.