نشيدُ فيدليس، أثرٌ غير منطقيّ

الجسرة الثقافية الالكترونية –

حلا سويدان

حلا السويدات *

أثقُ أنّي سأفكّر بالانتحارِ في غضونِ السّاعاتِ القادمة، فبشأنِ أيّ حَرْبٍ أن تترُكَ في الّنفوسِ هذه الرّغبة، وفي الرّؤوس مشاهدَ تحققها بعدّة طرق، كمثل، تصرّفي على نَحْوٍ مغاير لتصرّف تيسير السبول، أضع مسدّسًا في فمي، وأنتهي من الأمْرِ بمنتهى الصّمت، وأكتب على قصاصةٍ مِنَ الورقِ» أنتَ مُنْذُ اليوم، «هباءً لاصِقًا».
ستأتي السّاعةُ التي أجْسُرُ فيها على تَدْوينِ تعليقٍ فلسفيٍّ مُبْهَمٍ على كتابي المفضّل، وسَأنْكِرُ كلّ العِبَرِ الأخلاقيّة المتفاوتة، وحسّ الشّعوبيّة العكسيّ لديّ، سأختَصِرُ حياتي بمعلمٍ استشعاريّ دراميّ، ولن أذكر شيئًا عن الحرب. عَبَسَ المُنتَحِرُون، لكنّهم لم يتولّوا، فَبِطَبيعةِ الحالِ هذهِ مشكلة عقديّة بالدرجةِ الأولى، عَبَسُوا، وولّوا وجوهَهم شَطَرَ الدّركِ الأسفل، من الهباءِ، ربَّما.
ولأنّ من الغريبِ على المُؤمنِ قتل نفسِه، وعلى قاتِلِ نفسِه التّصبّر بتعاليمِ الإيمان، وعلى المنطقِ الانتحار بمنتهاه، وبكلماته الكثيرة الرّنّانة والملائكيّة، سَينقادُ إلى حيثُ سلام البرزخِ المؤقّت، حيث ثمّة براءٌ من أطماع بشريٍّ أماتتْهُ لذّاته وأحيتْهُ في نفسه كلَّ يوم، وحيثُ يتفانى ذليلٌ يرتكب المقامرة الأخيرة على مرحلتين متباينتين؛ جحيم ونعيم. ضدّان ينبثقان من سراب ويحتميان به ليتصّعدا، نارٌ وقودُها النّاس والحجارة، لكنّه وقود فتّاك لطينته، وغدّارٌ مما لا بدّ في ذلك، فيقال سهوًا: فلتنعمي يا خطيئتي بنارٍ من لحمي، ويقال عمدًا: ثمّة بالروح غيمٌ تُستسقى، وفي الشّريان توقٌ لأداة حادّة، ويُرَدُّ سهوًا: سأذوب وسأنهال كشلّال قديم ومغرٍ في الزّمن الأوّل من فوق رصاف دجليٌّ ناعس، ويُرَدّ أنينًا ونشوةً أرضيّة ما عادتْ تُجدي، وما عادت تروّضنا بقصائد غلّابة.
تفوتني الصّافرة، وأنا ما زلتُ أُنشد، على نحو مترجّم بكلمات ركيكة لا تعطي روح الكلمة، انظروا الطفل ملك الملائكة، هلّموا هلّموا، يا مؤمنين، تصرخ الجموع، ويرتكبون على مرّ ما غُنّيَ هذا النشيد محضَ نداء، لا أكثر، يا مؤمنين، وهم أقصى من أن يسمعوا، هم لا بدّ لا يسيرون حذوًا، هلّموا إلى بيت لحم وانظروا الطفل الملاك، في الغسق وفي تبعثر النّعاس والرّيح والحرب يا مؤمنين، فرحين ومنتصرين.
ما زال من الغريب على المؤمن قتل نفسه، رغم كلّ ترضيات يسوع ويوحنا والحسين بن علي رضي الله عنهما، ما زال من العبث أن يجلس في غربة مشرعةً لأمشاجٍ تلقف العصا، وتُنبِتُ الذئابَ لنار جموح، وتنبتُ الأفاعي أكثر من أن تسعها المدينة. في القرب آلة حادّة ومسدس والكثير من البُن، والحقّ، ودون الحاجة إلى بنية درامية، ولا إلى عتَلَة مجاورين، أنا داخل مسرح كبير مررتُ به صباحًا كي أضع الملابس التي أخطتها للعرض المسرحيّ التّافه الذي سيقام الليلة، وفي القرب لا يوجد إلا فنجان قهوة بارد، بارد أكثر من أن يمتلك نشوة القتل، والتي بطبيعتها، نارٌ وقودُها النّاس والحجارة.
نشيد فيدليس، لا أذكر أين قرأته تحديدًا، إلّا أنني أحفظ منه ما يدلل عليه، ربما سيخطر لأيّ حامل عابر لجثّتي أن يكتبه على شاهد قبري، أن يعتقد في داخله، صدقًا، بإيماني.
العزّ الأبديّ للأب الأزليّ
Adeste fedeles / هلّموا يا مؤمنين
أتت السّاعات القادمة ولطّخ غضونُها وجهَهُ بالتّراب، ولم يزرْ أحدٌ المسرح في ذات اليوم، زاروه بعد عدّة أيام، بعد أن سُرِقَ النشيد، وفُهِمَتُ خطأً، وهِمْتُ في القناطرِ بعدئذ، حيثُ إن انتحرتُ مجدّدًا هناك سأحظى بجولة مع طير ما، نحوَ الله. أحمل نصيبَ المؤمنين جمّةً.

بالٌ بلا أغانٍ

صائبٌ من قال إنّ المجازَ لغوٌ، وإنّه لغوْصةٌ في المعنى، في النّاس بوقات لها وطبول/ المتنبي، وأصوبُ منه آخذٌ بخمرِه في المضارب.
وقلتُ فيما مضى، ليس لشمسي أنْ تُظلم في المحاريب، وأنْ تُنيرَ ثقوبَ المزايا الخائِبة، وإنّ فعلَ الإنارةِ قد يحّتمُ البلاءَ لا الشفاء، هذا إنْ اعتبرنا أنّ العتم ليس ضوءًا بوصفِه وذاتِه، وأنّ القصيدة ليست ألمًا بكينونته، وهل يتألّم الألمُ، بل هل تُقْتَل القصيدةُ، هل للقصيدةِ دمٌ يسيلُ؟!
للقصيدةِ خلقٌ يُنكرونها ويجحدون نشوتَها، ومنهم متصوّفون أبلوا رقصًا في محاجرها، ومنهم سكارى يغريهم نقض النعش، مئةً، بل ألفًا، بل حروفًا معقوفةَ الخاطرِ لا تدري أين تسيلُ ولا من فاهِ مَن. لي بالٌ بلا أغانٍ، بلدٌ يُشعلُ الحزنَ في المعازف، وشظايا تبصُقُ نفسَها بالدمِ كفَيْنيق يتألّهُ على رمادِه، لي ذاكرةٌ للسرقة، وتشاؤمٌ لا يدفعني للبحثِ عنها واستعادةِ الخطيئة، رُبّ خطيئةٍ بلا مهد، أيْ نفسي، أي مهد بلا خطيئة، بلا معنى ومجاز.
ماذا لو صلبتَ ظنّك، لو سرتَ بعيدًا دونَ أنْ تلتفتَ إليه، ودونَ أن تنمو أرجوانةٌ ما بين السيرِ والتلّفت، لو كانت هذه الأرضُ شاحبةً، لو بقيت شاحبةً كالقمر، دون انزياح عن الحقيقة للوهم، لو لم تترك فيها قصيدة تشدّك للقفار، لكنّك تتلّفت في كلّ ليلة، لديك من الضجر ما قد ينتصر للحنين إلى الوجود والظنون والله، وإلى ناصب الأفخاخ الأكثر حنكة.
 قلتُ فيما مضى، إنّ السّلسلة خيبةٌ والتتابع رسمٌ لقطيع صُمّوا إذ سرقَ الذئبُ نايَهم ونأى به، أيُّ شغْلٍ سيكون غير حطْبِ ما هو أوهنُ وأقلّ قيمة. وإن كانت قيمة الشّيء بالتمكّن منه من بعد وعورة وصعوبة، وإن كان شقُّ الصخرِ قد لا يُجدي في نهايةِ الخيبةِ، كيف لنا أن نقتُلَ الشيطان، وأن نقتل وجودنا وقيمتنا. كأن تهتك الحجابِ عمّا نسيتَ قوله فيما مضى، وكأن يكونَ مجازك سلطانًا عادلًا يُسمنُ ويغني ويسامرُ ويجالس ويطرب ويشاركنا القهوة، سيضرّ وجودَه أن ينفضَ عنه احتقانَ النّظريات والجحافل.
 شيءٌ يمعِنُ في تخفّيه، وفي غفلة منّا في أرضِ الصلْبِ حيثُ نسيرُ وحيثُ يرهِقُنا التلّفتُ. نفقدُ المهمّ ونقف على شفا الفخّ نلوّح إلى الشّمس، لا ظلّ لنا، آن أن نعي أنّ مجازُنا أولى بصفقه في القوافي، وأنّ التقويض محضُ تسلية لا عبور كما كنا نؤمن، لا ضفة أخرى ولا وجه للكرسي كما ظنّ أفلاطون، فماذا لو كان الانعكاس هو الصّورة، والظلّ هو الأشياء التي بغموضها وبمعرفتها تتصيّر أكثر تجسّدًا.
نفقدُ المهمّ، ربّما، ولا نعزّي أنفسنا بالأهمّ، فعنصر التّمايز بينهما يفتقد إلى المعنى، وكثير الضجر، بل ومزاجيٌ أيضًا، في بعض الأحيان، حين تبرد القهوة، أو يحركّها أحد بملعقة يعلق عليها السكّر، قد تغيب الأشكال الهندسيّة في بعضها البعض، وقد يغدو مربّع الشوكلا الفاخرة أهمّ من وجه فنجان القهوة الدائريّ، قد نفقد الأهمّ، مؤّكدًّا.
بال بلا أغانٍ، لكنه ينصت للسنونو كلّما حل الضجر. 

الدستور

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى