نفيسه التريكي إمرأة تقاتل في الظلام .. وقفة تحليلية –

الجسرة الثقافية الالكترونية

في البدء أقول أنني لست بناقد أو مفكّر ، لكني وجدت نفسي فجأة ، اقتحم ديوان ( رعد) للشاعرة نفيسة التريكي . في محاولة للدخول إلى عالم الشعر النسوي التونسي ، أفكّ الطلاسم ، وأتجّول بين الحروف ، بسعادة . الديوان صدر في ماي 1997 عن دار الرؤى . يحوي28 قصيدة ويقع  في 92 صفحة من الحجم المتوسط . وقد صمّم غلافه الفنان العراقي علي طالب عن لوحته الزيتية  – تقابل – يحوي ( رعد ) الكثير من الثيمات الإنسانية التي تحمل بداخلها سرّ الإنسان المهذّب ، الحسّاس ، النقي ، بدليل المسميات : الحب ، الغربة ، الخوف ، الحرب ، المجهول ، الحنين ، القلق .. الخ  وكل هذه دلالات ، ربما يتفق مع القاريء ، تؤكد مدى اتساع أفق الشاعرة وسعة تجربتها ، التي عكستها على نصوص شعريّة ، غاية في الاتزان ، من خلال استعارات ومجازات ومفردات غنيّة ، جعلت الديوان يحلّق عالياً ويخرج من دائرة الأدب المحلّي صعودا إلى الأدب الكوني.

من البديهي القول ، إنّ اختيار المفردة الشعرية ، له علاقة بالتوتّر الحسّي والنفسي للشاعرة ، وذلك لإعتماد الشعر على نبض الكلمة والسياق ، وشعريتهما . وهنا لا أود أن أقول بأن هيمنة المفردة وحدها تنجز قصيدة متكاملة ، حسب ، بل مقدرة الشاعرة في الخلق من الفناء . وذلك من خلال تفجير الطاقات المخزونة لديها ، مكوّنة تراكيب شعريّة لها مقدرة كاملة على الإقناع المنطقي للمتلقي . وبذلك استطاعت الشاعرة أن تؤسس وبمهارة عالية مرجعيّة لرؤياها الشعريّة . في جميع قصائد الديوان ، محققة بذلك الترابط والتلازم ، بخصوصيّة وحدة الموضوع ، والبناء ، الأمر الذي يتيح للقارئ ، التأمل في سر بنائها ، الذي يعدو بمثابة رؤية كاملة . مستنتجة من إفصاحات ترميزية ودلالية ، أرادت به الشاعرة تكوين عالمها المصفّى الخاص .

وعبر رؤى إبداعية . تقدّم لنا الشاعرة قضايا خطابها الشعري ، بصوت صريح ، نابع من تجربة انسانيّة كبيرة . تقوم الشاعرة بسقي أحاسيسنا بخرطوم مياهها . العذبة . من خلال جدلّية الصراع سواء بين القدر و الإنسان – أو الإنسان و الإنسان . تغور داخل النفس ، بدفق أبيات جميلة ، مستمرّة في محاكاتها .. منذ الصفحة الأولى ، بترنيم يشوبه أحياناً  الحذر ، فيما نجده في مقاطع أخرى إباحياً . يفصح عن ما وراء زخرف الجدار الشعري .. وفي قصيدة ( قتال الظلام ) وهي أطول قصائد الديوان . حسب زمن كتابتها من 1994-12-9 إلى 1997-5-14 . وحسب سطورها الشعريّة الـ: (354) نقرأ : ( طقطق الحب على بابي  من مسافات بعيدة ) ص 19 . نجد هنا وبوضوح . الالتئام بعرى وثيقة غير منفصلة بين المرأة وهاجسها . الذي جاء ليكمل لوحة تصويرية غنّاء ، لحب منتظر ، عبر استهلال ذكي ، ومعرفة لأنقى صور الحقيقة ، وذلك إيضاحاً لأمر ، بقدر المستطاع ، من قبل الشاعرة ، في حَبْكِ الحدث ، من خلال المهارة الفنية العالية ، المستخدمة ، والمعدّة ، مُسبقاً للمشهد القادم ، بحيث  تجبر القارئ على المواصلة والبحث ، ووجوب المعرفة لهويّة الحبيب القادم . خضعت قصيدة (( قتال الظلام )) لترتيب هندسي فائق التقدير ، بعيد عن التشتت والتشظي ، مما جعل الرؤية إليها تطول ، وكذلك التأمّل ، الذي يأخذ القارئ أحياناً ، لفترات زمنية غير محدّدة ، بعيداً عن الجوّ الذي هيّأهُ  للقراءة ، وإحالته إلى نتائج قد تنفع في التحليل من خلال تخيّل البطلة ـ الراوي ـ وأطلال صورتها عليه ببهجة وتفاؤل . لا سيما عندما تُفَكُّ الرموز ، والمفردات ، وتصبح القصيدة في متناول اليد . وتوحي بأنها قصيدة ـ امرأة . لكن ومن خلال ارتباط العناصر المكونة لماهية الحدث الرئيسي ، وبتعبير شعري عفوي ، نقرأ مفاجأة أخرى في أعلى الصفحة 23  : ( عناصر الحرب ، عناصر الكرة الأرضية ، عناصر السلام ، عناصر تقابل عناصر ) . نحن الآن في دوامة جديدة . وان كانت مرتبطة بقصة حب . إلا أنها تحيلنا إلى جو قتال وحرب . لقد تغيرت الصور وبدأ الهم الجماعي ، الهم الإنساني الكبير ، باكتساحنا . منذ بدأ الإنسان البحث عن كنوز موهومة في المدافن ، التشبث بالاساطير ، البحث عن عشبة الخلود ، الاستمرارية في خلق حياة افضل .. إنها تراتيل تكشف لنا عن جدلية ( قتال الظلام ) القتال الذي لا ترى فيه عدوّك . البحث عن أقطاب هي في مضمونها متداخلة ، لكنها تبدو للعيان  متنافرة . ( الرجال الزرق ، نعم أيضاً . أيضا يعرفون من حرارة الفسطاط والفحم . يدركون ما تبقى من كنوز الأم ) ص 23 . أصبح لدينا الآن ـ أم ـ وهذه الام التي ربما تكون هي ( الأرض ) لديها كنوز ثمينة وكثيرة وكثيرة ، وهناك رجال زرق يعرفون كل شيء عن الام وكنوزها . لابد ان هناك تواطئاً أو مؤامرة مدبّرة للسرقة . أيّ مصير هذا تطلقه الكلمات في فضائها ، ليتحول مشهد الحب إلى مشهد حرب ، ثم إلى سرقة كنوز مجهولة . لا نستطيع تقديرها ، حسب عدم معرفتنا الحالية . الموقف الذي يجعلنا نحن القراء نتعاطف كلياً .. وهذا ما أرادته الشاعرة ( ما كنا كشفنا بعداً آخر لأمنا ، أمنا الملتحفة بوجهها المسجون ، في وجوهنا ) ص 24  . وهذا ما جعل فعل الالتحام المباشر بين القارئ والقصيدة يحصل بعد قراءة جزء يسير من القصيدة . وليس مثيرا للدهشة ان تحوي القصيدة أكثر من ثيمة ، ثم تأتي المحصلة النهائية لتضع حداً للحدث الرئيسي . وهنا تجلّت مقدرة الشاعرة في التثبيت والإصرار على استمرار الخوض والوصول في ربط الأحداث . فمن فعل حب ونشوة لهاجس خفيّ مشوّق إلى فعل اقتحام يوحي بجسارة وتدمير ولا مبالاة فيما سيحدث بعد ذلك ..

( و .. كان .. كان .. كان ..

في إغماءة أو رؤيا ما نشور :

كانت الأرض وكان القمر وكان الحب

وكان حلما وكان وهما . واستفقت )  ص 25

في لهب القراءة تطفيء أفواهنا لذة صمت باردة حين نتوقف من دهشة معرفتنا ، بأن ذلك لم يكن غير حلم . وقد استفاقت منه البطلة ، وسمحت لنا ان ننعم برؤية كانت هي في واقعها حلم . ملتهب بعوالم رُسمت بدقة . منحتنا انسجاماً تاماً مع رؤية الشاعرة /البطلة ، لقضيتها .

لقد كانت الشاعرة تعي كل تلك الإشكالية ، التي تثار هنا وهناك بين حين وآخر ، في زوبعة  فعل الكتابة ، وفي وعيها هذا قررت التوكيد على الخوض اكثر ، من خلال رؤية ذهنية تطمح ان ترى العالم اكثر نزاهة وأكثر رحمة ، كما سوف نرى ذلك لاحقاً .

تأتي إجابات الحبيبة مؤلمة ، في مواجهة المصير ، حيث تدفعنا العواطف إلى مؤازرتها في عذاباتها :

( كيف ؟ كيف ؟ وأنا كلي في دمي آلاف

صرعى

…….

وأنا في اللحظة الواحدة ضرب ونقمة .

…….

فأنا مرّ بجسمي آلاف الغاصبين في سكات

……..

وأنا الجليل ، القدس ، نابلس ، غزة ، بيهاتش

بالحديد فقؤوا فيَّ البكارة

مليون ألف ذكر اغتصبوني

 بالتناوب مزقوني ) ص 28-27 .

( من جديد

طقطق الحب على بابي من غياب

واستجاب

قلب النار هذا

واستطاب لذة الصوت ) ص 26

ان الفوز بشيء ما يمنحنا سعادة ، خاصة وان كان هذا الشيء هو أملنا الوحيد في الاستمرار بحياتنا ، ربما ، فما بالك وهذا الشيء هو الحب ، جوهر الحياة الدنيا ، وبدلا من البحث عنه ، يأتيك هو إلى عقر دارك ويناديك :( قمر العشاق نادى ليله في التهاب ، يا حبيب الموج من زبدي ، هيّأ النفس إلى حب عسير في غدي ) ص 26 . لا عليك سوى ان تستجيب كما فعلت البطلة / الشاعرة ، وهنا يأتي دور التحقق من مصداقية هذا الحب ، الذي طقطق بداية من مسافات بعيدة ، والان من غياب ، ومدى قدرته على تحمل الصبر تجاه العشاق ، وحيث لا تكون الكلمات كل شيء ، عند اللقاءات العاطفية ، ذات الشجون والجوى ، علينا ان نغور في الاعماق : ( آه لو قلت احبك كثيرا على كثير . ماذا يحصل للسر أيهدم في ضميري ؟؟ ) ص 26 . انه لسؤال في غاية الحكمة والدقة ، لكن لا يأتي هنا من ناحية التأكد من هذا الحب الخالص ، هل هو حقيقي أم لا ؟ بل من ناحية الانشداد والاندفاع والتضحية ، بحيث من الطبيعي جداً ان يتواجه الحبيبان في خلوة . فإذا قلنا بأن ليس هناك حب . فلن يكون هناك سؤال مثل  هذا ، أي أن مثل هذه الاسئلة لا تأتي إلا بعد مضي فترة من الزمن ، عانى فيها الحبيبان ما عانى من  ألم وفراق وسهر ..

( ولكن لا تلمني ان سهرت من حبوري

أو طفحتُ ، وفضتُ من شجوني أو سروري

أو تلثّمتُ بحزن الأرض ، ربما كان

إلهامي ونوري ) ص 26

ثم يأتي دور الانفتاح على اسئلة كثيرة ، معنوية تشكل ، معادلة مصيرية ، تمتد عبر أبيات مشتعلة بلهب حب عذري ، متوافق مع ما جاء وما يجيء لاحقاً محمل بالكثير من اللاءات .

( لا ـ لا تغازلني بغزل العنكبوت

لا تقل لي : انت .. روعة ، لا أصدق

لا تقل لي : أنت أشواق محبة

لا تقل لي : أنت أشهى السيدات

لا تقل لي : أنت وعي وحضارة

لا تقل لي : يا فراش الحب طيري ) ص 27  .

ان المأساة ليست في فراش الحب ! وحده ، بل في لوعة المرأة وعذابها ، أمام الطوابير الصلدة من القرارات الحجرية التي وضعها المجتمع ، والتي وضعتها في عزلة تامة عما تريد تحقيقه ، كأي جزء حي من هذه الأرض الطيبة ـ الوطن العربي ـ مثلما يتم ربط القضية الام ـ فلسطين ـ بقضايا عربية كثيرة ، فهي تريد ان تضع حدّاً لمعاناتها وهمومها ، فتظل تسأل عن أيّ شيء غامض يجابهها ، لتصل إلى الذروة أسوة بالرجل ، وفي معرض حديثي هذا لابد ان اهنيء الشاعرة على ما توصلت إليه من نضال في طرح قضية مصيرية ، ستبقى سر التساؤل الدائم على الشفاه . فقد استطاعت وبإيضاح ، عبر قنوات التوصيل ، أن تصارح ـ الحبيب / الرجل ، وتؤكد عليه ان مصارحتها هنا جاءت من اجل التوضيح في فعل ـ الاغتصاب ـ

( الجندي المرتزق يحرق قلبي

بسيجارة

يغتصب ، يقتل ، يترك دم الدورة

في الطريق ) ص 28

فهل ما زلت تريدني ، بعد كل الذي فعلوه بي ، هل ما زلت في غفلة ، أم إنك صحوت ، لترى حبيبتك ذبحت ورأسها في يد الجزار ـ ( أحبيبي ، أما زلتَ تؤمن بي دون تعب ؟! ) ص28 . تعود لسؤاله من جديد ، فبعد كل هذه الالام التي تركها الغاصبون في جسدي وفي رحمي ، اما زلت تحبني ، بعد أن أزالوا بكارتي وحطموا مدينتي ـ هنا يكمن السبب في ذكر المدن المغتصبة ، الجريحة مع سكانها المناضلين . وبه أرادت الشاعرة ومن خلال نظرتها الواعية في التشبيه ، ان تكمل رؤيتها في فضح الظلم ، ظلم اغتصاب المدن العربية ( غزة ، نابلس ، الجليل ….. ) وتغدو قصيدتها أكثر فعلا ومغامرة .

وبثورة من ابيات متلاحقة ، تطلق مشهدها الشعري ببراعة ، وتعترف حاملة معها ، جسدها الممزق ، الفاني ، الذي لم يعد صالحا لشيء : ( ها انت كشفت سري ، وحططت وزراً عن ظهري ، وأفنيت هكذا عمري ) ص 31 . وتستمر الشاعرة / البطلة بإطلاق دفاعات مستميتة بالكثير من  لاءاتها . بوجه الحبيب القادم من بعيد ، وملامة نفسها أحيانا على ما فعلوه بها ، المغتصبون ،  الذين حاصروها وعذبوها ، مطالبة اياه ، بأن لا يقول : ( انت حرة / انت منبع / انت زهرة / انت مأمن / .. ) ص 32  . فهي لا تريد الاعتراف بنفسها كإمرأة مكتملة العقل والجسد . تصرخ بوجهه :   ( ماذا تبقّى فيّ لتحبني ؟ ماذا ؟ ها أنت هتكت سري ) ص 33 . لكنها تعود في مقاطع أخرى متقدمة وبعد إصراره الكثير في عودتها تقول له :

( فما دمت أشرق بقلبك الاحلام

ما دمت أبعث فيك الحس البسام

ما دمتُ أعطف ، أحنو ، أحب الوئام

فأنا عدالة ، حرية ، ثورة ، نظام . ) ص36

فخذ ما تشاء . أيها الرجل ـ الحبيب ـ المناضل ـ ها إني ادعوك ، انه اعتراف آخر من لدنها ، لكن يختلف عن الأول ، حيث يبدو هنا ، أقل تباعدا وأكثر قربة ، اذن هي دعوة إلى التسامح ، وانزال الستارة على ما مضى من فصول ، ( فالحب أخلد من الفناء ) ص 37 . هكذا ردّدت ثم أضافت :  ( فلنكن زوجي لوتس ) ص 37 . انه جسر للّم الشمل ، جسر مودّة ، ومحبة ، ووفاء .

وبذلك تكتمل الذروة ، في لمّ الشمل ، بعد فراق وعتاب ، من خلال مأساة وقتال دامٍ ، عمّ الصفحات من صفحة 19  إلى صفحة 41 . في قصيدة هي من أروع قصائد الديوان . إذ غدت الحماسة والبطولة ومشاكل وهموم الامة ، فيها ، من خلال الطرح افضل واروع ، حين ربطت بقضية حب مصيري وتدرّجت في مشاهد هي أقرب إلى التصوير المباشر ، غارت في النفس وانطبعت في الذهن ، كلوحات زيتية أرتنا إغواء النفس البشرية ، وكيفية مجاراة الامور الحياتية الأخرى ، عندما يُزاح الستار عن خفايا لا يعلم بها إلا الله وحده .

( والموت رغم حبنا سيبقى

والعصر رغم حبنا سيشقى

لكنه بحبّنا لا يقتل

بل للخلود يمثل ) ص 41

انها ملحمة متكاملة من حدث وشخصيات رُصِفَت أبياتها البراقة بدقّة ، وصيغت بإحكام ، وقُدّمت للقارئ على طبق من ذهب شهية للقراءة اكثر من مرة .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى