نهاية حلم

الجسرة الثقافية الالكترونية-السفير
*اسكندرحبش
رغم “المجزرة” التي فعلتها الحرب اللبنانية في بداياتها الأولى عام 1975 بأعماله، والإبادة التي تعرضت لها، بعد ثلاثين سنة من الإنتاج، والخسارة الصادمة التي قلبت مزاجه وأدخلته في حال من اليأس والعزلة، بقي ناظم إيراني يحاول ويحاول، من دون أن ينهض بقوة من تلك الكبوة التي كسرته وحطمت معنوياته، وبقي يفكر في حل لأزمته، ولم يجد سوى السفر إلى تلك القارة النائية، أستراليا، محاولاً أن يبدأ من جديد. غير أن الظروف في بلاد المهجر لم تساعد الفنان المتطلع إلى استعادة دوره وقيامة فنه من جديد على أن يستعيد مجده الفني.
رحل إذاً ناظم إيراني، الفنان المبدع الرقيق النادر الذي كانت انطلاقته في الستينيات وبداية السبعينيات هادرة ومكثفة وبارزة ومهمة. وقد لفت نظر الجميع، عائداً من دراسات عليا في “الاتحاد السوفياتي”، وممعناً في النحت يوسع الطريق أمامه ليكون في مقدمة جيله، قوياً في التجسيد التمثيلي الواقعي، مهتماً بجماليات الشكل قبل الفكرة والموضوع، مركزاً في برونزياته وخشبياته على المنحى المناسب لطموحه النصبي أكثر من انفتاحه على التيارات الجديدة. لذا كانت مهارته لافتة لأنظار كثيرين أغرقوه في طلب التماثيل التجارية، حتى دخل صليبا الدويهي إلى محترفه، ذات يوم، ورأى إبداعه، فعانقه، ثم نصحه بالابتعاد عن التجارة ففعل.
عندما التقيته في “السفير”، عام 1996، في زيارة له إلى لبنان، وسألته عن نيته في العودة إلى بيروت، أجاب: “بيروت في قلبي دائما مهما ابتعدت عنها. لكن العودة ليست سهلة، بعد استقراري في استراليا، وبعد انقطاعي عن العمل في المعهد. سأبقى مرتبطا بجذوري وبيتي وأرضي، وسأبقى أتردد على بيروت. وآمل أن استطيع يوما إقامة معرض نحت او رسم، او الاثنين معاً، في الوقت الذي أطمح فيه إلى الوصول للشهرة في الخارج”… غير أن ذلك لم يحصل، وبقي حلم إيراني منكسراً، وبقي وطنه مستحيلاً، ولم يعد إلى ربوعه ولم تأنس عيناه بنظرة أخيرة لترابه، بل إن عودة رفاته إلى الوطن لم تتم، عندما استقرت في بلاد بقي يشعر بغربته فيها.
بقي إيراني يعيش الصراعات تلك بين الغربة والوطن، فلا وطنه قدم له أمان العودة، ولا أستراليا أتاحت له أن يستعيد قامته الفنية. فهو حاول كثيراً أن يكون له محترف نحت، يستعيد فيه شخصيته الفنية كنحات حاضر بقوة، ولمّا لم يتح له ذلك بالشكل المطلوب، راح يركز على الرسم لملء الفراغ. ولم تكن محاولاته لتعويم نتاجه في أوستراليا بعيدة عن الانتكاسات أيضاً، فعندما قرر التلفزيون الأسترالي إجراء حوار متلفز معه حول تجربته الفنية، وقابل مخرج البرنامج، ولم يكن لديه الكثير من صور إبداعاته في لبنان، سوى صورة تمثال عبد الناصر، كانت تلك الصورة سبباً بإلغاء الحوار، وقد اكتشف في ما بعد أن المخرج يهودي ويكره عبد الناصر.
مع ذلك، بقي إيراني يحاول أن يفرض شخصيته الفنية في أستراليا، فتواصل مع غاليريات، وعرض على أصحابها أعماله، لكن الأمر لم يكن سهلاً، فالفنان “الغريب” لم يستطع اختراق الساحة الفنية الأسترالية، والإمكانيات المادية لديه لم تتح له أن يؤسس محترفاً مهماً يساهم في بناء الشهرة اللازمة، وقد أعارته كلية الفنون في سيدني محترفاً يداوم فيه يومين أسبوعياً، بحسب ما قاله منذ 18 سنة.
بعد تلك المقابلة التي أجريناها معه، لم يظهر اسم ناظم إيراني في الإعلام الأجنبي، وقد حاولنا تسقّط أخباره عبر “غوغل”، فلم نفلح. كل ما أعرفه أنه عندما جاء إلى “السفير” في العام المذكور أعلاه، كان يحمل كتالوغاً لمعرض رسم فردي أقامه في سيدني وكامبيرا. نتمنى ألا يكون المعرض اليتيم له. في الكتالوغ بورتريات لشخوص مهمومة، بعضها يحيلنا على الحرب الأهلية اللبنانية، فتعوم المآسي على ملامحها، وبعضها أقل قسوة، تحمل هموماً إنسانية عامة…
حيال هذا الجفاف في المعلومات عن نشاطه الفني، نعود أدراجنا إلى المرحلة اللبنانية. فلم يهجر إيراني لبنان هرباً من الحرب التي نكبته، بل بقي يهضم المجزرة التي أصابت أعماله حتى عام 1990، ويرسم المزيد من الملصقات التي تصب في دعمه للمقاومة الوطنية اللبنانية في ثمانينيات الاحتلال الإسرائيلي، مستخدماً الأسلوبَين الرمزي والتعبيري، كما يصمم أغلفة الكتب، ويواكب المجلس الثقافي للبنان الجنوبي بأفيشاته ولوحاته، وقد احتفظ المجلس بالعديد من أعماله.
ولا بد من أن يستغرب المتابع أن فناناً، بقدرات ناظم إيراني في النحت والرسم، لم يُقِم معرضاً واحداً فردياً في لبنان، وإن ساهم في عدد كبير من المعارض المشتركة في لبنان والخارج، لا سيما “معرض الربيع”، وقد حصد العديد من الجوائز. ذلك أن أعماله لم تكن لتهدأ في محترفه قبل أن تتسبب الحرب في إبادته.
كان إيراني يحلم بإقامة العديد من الأنصاب في لبنان، لشخصيات مهمة، تاريخية وثقافية، لكنه يستحق اليوم، بعدما سجي جسده في المهجر، أن يقام له نصب يخلده مثالاً لفنان قصفت النكبات إبداعه المتألق، وبقي يتخبط من دون أن يستسلم.