نيكانور بارا: الشعر في كل مكان عدا أبيات الشعراء

الجسرة الثقافية الالكترونية –
ترجمة: أحمد ضيف
تتنافس الجرائد والمجلات التشيلية هذه الأيام في تكريم الشاعر نيكانور بارّا، بينما تقيم الحكومة ومركز غابرييلا ميسترال الثقافي حفلات تكريم تليق بشاعر استطاع أن ينقل اليومي والمعاش إلى لغة الأدب.
بارا الذي عشق الرياضيات والشعر والفكاهة حَلّ مشكلة الموت في عامه التاسع والتسعين بقوله: لا يوجد موت
وتنشر جامعة دييغو بورتالس، للمرة الأولى ديوانه غير المنشور من قبل “مؤقت”، الذي ربما لا يتذكره بارّا نفسه، الكتاب عبارة عن يوميات لفيضان نهر مابوتشو في شتاء عام 1987، وفي الوقت نفسه إدانة للديكتاتورية، إنه قبل أي شيء محاولة لإعادة الشعر السياسي بعيداً عن البروباغاندا أو الاتهام، استطاع من خلاله نقل أصوات الضحايا، بطريقة بسيطة وفكاهية.
ولد بارّا في عام 1914 واليوم يحتفل العالم بميلاد الشاعر المشاغب بحضوره، وهي حالة نادرة. لكن بارّا الذي عشق الرياضيات والشعر والفكاهة حَلَ مشكلة الموت في عامه التاسع والتسعين بقوله: “لا يوجد موت”، ومن الصعب ألا نصدقه خاصةً عندما نشاهد أربع صور لوجهه في فترات مختلفة من حياته: يبدو بارّا الآن أكثر شباباً من سبعين سنة مضت، عندما هبطت آلهة الشعر التشيلي من الأوليمب، لينشر ديوانه “قصائد وقصائد مضادة”.
بارّا يشيخ بالعكس، ربما لهذا تتنافس الجرائد والمجلات التشيلية هذه الأيام في تكريمه، إذ أنه استمر حتى نهايات عامه التاسع والتسعين، بقيادة سيارته الفولكس فاغن الخنفساء، يكره النوستالجيا والميلانكوليا كما يكره الأوبئة الفتاكة، ما يزال لديه آخر نكتة، وآخر اختراع، بل أن زيارته تمرين فكري مجازف، فبوسعه أن ينهك أكثر الناس شبابا، الشاعر التشيلي الذي يحتفل بمائة عام في الحياة، ينشغل لعدة شهور بالبيانو، بعمود الرأي كشكل شعري، أو بلغة سائقي الأوتوبيسات، ومدرس الفيزياء بارّا يأخذ مستمعيه إلى تجارب أخرى في معمله، المعمل الذي كان بيتاً.
التناقض ليس ضعفاً
نيكانور بارّا ينكر ما يمكن أن يسمى بـ: المؤسسة. فتاريخ تشيلي، الذي يحب أن يحكى، جمعه هو بطريقة خاصة: كلف أخته الصغرى بيوليتا بارّا بأن تنزل للشوارع بمسجل ضخم لتجمع أغاني الريف. فكان بارّا المدرس الذي قص الجرائد ليعرضها في الشارع. كان الشاعر المضاد الذي قاد حربه الباردة، أو سلامه المسلح، ضد بابلو نيرودا (اللغة الشعرية الدارجة في مواجهة اللغة الراقية)، كان المواطن الذي عبر بكوبا وروسيا وشعر بانهيار الشيوعية الحقيقي، وتناول الشاي مع زوجة نيسكون، وكان لديه شكوكه في الاتحاد الشعبي، ثم طارده البوليس السياسي للديكتاتورية. وكان “النبي الذي بعث مسيح إلهي” ليقول للديكتاتورية ما لا يتجرأ أحد على قوله، وترجم للغة التشيلية الدارجة “الملك لير” لشكسبير، بينما كان أخوه روبيرتو يجدد المسرح التشيلي بمسرحيات “إستر الزنجية”.
وليس محض صدفة عند ظهور روبيرتو آخر في تشيلي، روبيرتو بولانيو، أن يبحث عن نيكانور بارّا، كما لو كان هذا الاسم مرادفاً لتشيلي. كما لو كان “فيرغن” تشيلي التي يمكن أن ينتمي إليها. بلد بدأ من جديد بعد كل الثورات والثورات المضادة التي عانى منها، ليتحول لمكان مليء بالتناقضات، حاول بارّا خلال سنوات ألا يقبل بها.
غير أن بارّا الذي يكره النتائج أو النهايات ربما يؤمن أكثر بهذه النتيجة: التناقض ليس ضعفاً، بل ربما قوة، الجدية الحقيقية كوميدية. اتحاد اليمين واليسار لن يحقق أبداً الانتصار، الشعر موجود في كل مكان ماعدا أبيات الشعراء.