هاني فحص شاعر بالقوة

الجسرة الالكترونية الثقافية-السفير-
ظاهر الأمر وغالب الظن أن السيد هاني فحص ألف هذا الكتاب خصيصاً لردّ «تهمة» شائعة ذائعة، مفادها أنه ضبط متلبساً بالشعر! والحال أن تمنعه ههنا يبدو كذاك التمنع الذي يصدّ ولا يردّ، فيغري بالإقدام أكثر مما يُقنع بالعدول عن المرام. تراه سعيداً بالتهمة فيما هو يردها بمطالعات تبريرية تفسيرية، كان يمكن تفاديها، على الأحوط. لكأنه يقول لك: حبذا لو تبقى على ظنك هذا، إنما ليس على مسؤوليتي!
من أين تأتي شعرية السيد في ما يكتب أو يحاضر أو يحدّث أو يحاور أو يسلك.. أو حتى «يفتي»؟
تأتي أولاً من إلماحه الذي يغلّبه عادة على التصريح وإطالة الشرح. وتأتي ثانياً من شفافيته التي تُحرج ـ إن لم نقل تفضح ـ غلظة الفقهاء الوعظيين، والسياسيين الانكشاريين، وخطباء الجملة الخشبية. وتأتي ثالثاً ـ وربما أولاًـ من إقامته الدائمة على شفير «الدهشة» التي يعدّها العارفون منهل الشعر ومقلع الشعرية. هي تلك الدهشة الطفليّة التي تلغي المسافة والحواجز وركامات «الراشدين» ما بين الذات والموضوع. ولطفلية السيد هاني أصلٌ ذكره في بعض كتاباته، حيث قال: «أرسلني أهلي ذات يوم، ولداً عاملياً إلى حقول التبغ، فنسيتُ نفسي هناك، ولم أرجع حتى الآن!».
وتأتي رابعاً من قلقٍ يعشقه، حتى قال في بعض مساراته التلفزيونية: «أصبحت لا أطمئن إلى نفسي من دون استشعار هذا القلق». ومعلوم أن القلق مهماز الإبداع الفني عموماً، والشعريّ بخاصة. وتأتي شاعرية هاني فحص خامساً، وغالباً، من كونه شاعراً «مضارباً»، أي «شريكاً مضارباً» للشعراء. وهذه قضية معروفة ومسجلة في «دوائر الفن العقارية»، مفادها أن الذي يُحسن تلقي الإبداع الفني وتذوّقه واكتشاف جمالاته، يُعدّ شريكاً شرعياً للمبدع نفسه.
على هذا النحو أفهمنا هاني فحص، وفهمنا، معنى اقتراضه للشعر وعزوفه عن صنعة القريض أو القرض. ولقد أعلمنا، ورضينا، بأن المراد هو ذم القرض ـ بمعنى القضم والهبْج والخبْط، وما إلى ذلك من همجيات حتى لو كانت موزونة ومقفاة ـ أكثر مما هو التبرؤ من لوثة الشعر الذي تود كل قامة تامة لو تلتاث عمامته وتتغاوى على إيقاعه. وفيما كان يفهمنا ذلك ويعلمنا إياه، ما نطق بغير الشعر، فانكشف أمره انكشاف ولد يسرق بيضة بلدية من تحت دجاجة الخالة:
«يا خالتي، وأنا أبن أختك،
إن تمنعيني من صعود الحور والحيطانْ،
أذهبْ مع الزعران!» ـ حسن خليل العبدالله.
تعالوا نضبط السيد هاني شاعراً:
«لم أستطع أن أقرض الشعر فاقترضته، ملتزماً بدفع فوائد كبيرة ورهن ثيابي في مصرفه، وليس في نيتي أن أوفي قرضي. فليبع الشعراء ثيابي سداداً لدينهم عليّ… مع ألف شكر».
«كنت كلما سمعت شوقي بزيع يرتل شعره، أحاول أن أخلع عليه عباءتي، لا لأنها فخمة كقصيدته، بل لأضمن له الجنّة. فإن قال لي: وأنت؟ أقول له: أنا من الغاوين…».
«رأيت محمد علي شمس الدين يدخل في القصيدة من فضاء مفتوح، كأنه يأتي من لا مكان، أي من كل الأمكنة».
«مع غسان مطر صارت كل الجهات جنوباً…».
…هذا إلى كثير من مناجاته للشعر والشعراء في هذا الكتاب «الأعزّ على قلبه» كما يقول، فيراقصهم كما راقص حسن الحايك شتلة التبغ. غير أن صاحبنا، وبعدما أخذ منه الرقص ومنّا كل مأخذ، وقف وسط الحلبة هاتفاً: «أيها الشعراء! نيّالكم! ونيّال مَن يُحسب عليكم! وأنا الآن أستشعر الرضا، لكوني متهماً بالشعر، بكم، ولا أتبرأ.. وليكن ما يكون!».
سيّدي، لا يُطلب منك أن تصير ما أنت عليه، بل أن تواظب على ما أنت عليه، شاعراً بالقوة والفعل والشراكة، شاء من شاء وأبى من أبى!