هاني فحص يودع عالمنا بيد قابضة على جمرة الحرية وموقف أخلاقي لم يتزعزع

الجسرة الثقافية الالكترونية-العرب-

 

– رحل هاني فحص، فارس الكلمة وفارس الموقف، العلامة الذي مزج في شخصه بين الأديب بخياله الخصب وسعة اطلاعه وأريحيته، ورجل الدين برسالته وإنسانيته ونزاهته المطلقة. شخصية لبنانية استثنائية بأخلاقياتها الرفيعة ورحابتها الروحية والفكرية، تحدّر من سلالة الكبار الذين أنجبهم جبل عامل.

من رجال الدين القلائل الذين مزجوا الأدب بالعلم وبالأخلاق، مواقفه مشهود لها بالجرأة والشجاعة الأخلاقية، ناصر جميع المضطهدين عربا وكردا وعجما، وانخرط في صفوف المدافعين عن القضية الفلسطينية، ناصر الضعفاء والمظلومين وقارع بكلمته الحرة وقلمه الشجاع الطغاة والمتحالفين معهم.

آمن بالمقاومة لاستعادة الحق، وعندما ضلت البندقية طريقها وقف لها بالمرصاد. عاداه حزب الله من قبل حتى أن تندلع الثورة السورية ويتورط فيها “الحزب الإلهي”، وعندما وقع زلزال الحرية في سوريا أنشد لدمشق الأحرار، وأعلن انحيازه لثورة الحرية والكرامة. اعتبر دمشق عاصمة المظلومين، وشعبها أهله، واعتبر بندقية حزب الله في سوريا ضدّ شعبها سقطة أخلاقية وخيانة للأمانة.

كان آخر ما كتبه العلامة هاني فحص هذا العام رسالة موجهة إلى “الأخوة في حزب الله.. قد عرفنا قوتكم عياناً وبالملموس. وأردنا لها أن تتزين أو تتحصن بالعقل الذي يحرر فيتحرر، فإذا بها تصرّ على تحويل الحرية إلى ما يشبه القيد، عندما تخصص ذاتها بالثمرة وتصر على انتقاص حق الشركاء أو حرمانهم من حرياتهم، بالاستقواء على البعض واستتباع البعض، وتهز أعطافها، وتذهب في عُجب وتحديق نرجسي، في الزناد والزنود”.

 

من أبرز كتبه “ماض لا يمضي”، و”ذكريات ومكونات عراقية” و”الشيعة والدولة في لبنان” و”خطاب القلب”. “العرب” تعزي لحظة العقلوالقلب بغيابه، وتعزي الأجيال الطالعة التي ارتبط بأحلامها وتطلعاتها السيد الراحل، و”علامتنا الوحيد”. كما هتف غير أديب وشاعر ومفكر في لبنان وسوريا، ممن أصيبوا بفقدان هاني فحص.هنا شعراء وكتاب ومثقفون عرب يقفون بجوار اسمه في تلويحة الوداع.

 

 

رشيد الخيُّون:

 

 

هاني فحص وعن يساره الشيخ سارية الرفاعي والشاعر نوري الجراح وعن يمينه الفنان سميح شقير في افتتاح المؤتمر الفكري السوري نصرة لانتفاضة السوريين في القاهرة 2012

عمامة من نوع آخر

 

أرى العمائم نوعين؛ نوع يشبه سمك القرش، يبتلع ما يقدر عليه، مستغلا عقول البسطاء، فراية الله وكتابه في يده، لا ينطق عن الهوى في ما يتحدث عنه، والناس لديه مشروع تجارة وسياسة، يراهم جنودا مجندة له. النوع الآخر عِمامة العلامة هاني فحص ومثاله يشبه الدَّلافين، تراها بانتظار الغرقى عند سواحل البحار وأعماقها، تؤنسهم بحركاتها، وأن رؤيتها علامة على الأمان.

 

عرفتُ العلامة هاني فحص فقيها وأديبا، لكنه ليس ككل الفقهاء، يبحث عن المناطق الحرة التي يلتقي فيها النَّاس خارج المؤثرات الأيديولوجية، ويُضفي وجوده، في جلسة أو احتفال، جوا من الشفافية لا ترى الناس فيه غرباء. يبحث عن اللقاء في تضامن مع أهل دين أو مذهب أو حتى حزب، لكنه يرى أن العمائم، على اختلاف مذاهبها، بعد أن اُحتكرت لرجال الدِّين كزي رسمي، يتلوث نسيجها في الحزب والعقيدة السياسية، فظل محافظا على عمامته من تلك اللوثة.

 

كان شجاعا في خطابه، عندما يتطلب الأمر موقفا صريحا في ما يفعله الإسلام السياسي، وما يمنع من تحرر الناس من قيودهم، وكان دقيقا في ما يقول ويكتب عن الطائفية التي يراها كشرت عن أنيابها، وهي عنده ليست مقيدة في مذهب دون آخر. قرأتُ له وسمعتُ منه، ولشغفي به واجلالي له أخذت أبحث عنه، حتى التقيته فوجدت عِمامته ظلا في هذا الهجير، فقلت له ممازحا، وكثيرا ما أجده يخفف شدة الجدل بمزحة: إياك تخلعها! فردّ عليّ: هم يتمنون ذلك، كي يجعلوني خصما مارقا! أستعير من محمد مهدي الجواهري في ما فقدناه من لسان وقلم هاني فحص ضدّ الطائفيين القتلة: “أوسعتهم قارصات النّقد لاذعة/ وقلت فيهم قولا صادقا عجبا”.

 

 

* باحث من العراق

 

 

يحيى العريضي:

 

حبيب المستضعفين

 

قبل أعوام ودّعنا الأقرب والأحب إلى قلبه -الشيخ الجليل محمد مهدي شمس الدين- واليوم نودعه.. إنه صوت الحق ونصيره، إنه حبيب المستضعفين وحبيب الله، صاحب التاريخ السياسي الذي لا تشوبه شائبة، وأحد فرص خلاص لبنان، إنه العلامة هاني فحص الذي دوّى صوته بالحق عندما صمت الكثيرون. هو من مدّ الجسور عندما كان حزب الله يحرقها. هو من دعا وعمل على وحدة الحال عندما استثمر حزب الله في الخوف والحقد مختطفا أهله في لبنان ومجيّشا إياهم في حالة ريعية عماها المال الإيراني في عزلة “الغيتو” على الطريقة اليهودية.

 

لقد كان الصوت الأقوى في نفوس وعقول المستضعفين وذوي الضمائر الحية عندما رفض احتكار حزب الله للحق الحصري في التحدث باسم شيعة لبنان ورفض قمع الحزب لكل من يرفض هذا الاستحواذ القسري. هو الذي قال إن كان لا بد لإيران من دور في لبنان فإننا نرفض أن يتحوّل إلى نفوذ. هو الذي رأى في “النظام السوري” مجلبة للعار بقتل شعبه.. نظام يرى أن الاستبداد أضمن من الحرية. إنه الذي دعا نظام الاستبداد إلى التوقف عن الفتك بالوطن والمواطن السوري. وداعا أبا الحسن كنت الكبير وستبقى.

 

 

* كاتب من سوريا

 

 

ناصر العايد:

 

 

هاني فحص كان مشغول بالنقد العميق والجدي وليس بالعداوة والقسوة

الرجل الحكيم يتوارى

 

إنه ليس رجل دين، بل مثقف ومفكر كبير، منحه نقاؤه هالة روحية شفافة. مستقيم ولا يخلط السم بالدسم، قال لي حين سألته عن الحكم الفقهي لتدخل حزب الله في سوريا: “الحكم الفقهي! أيّ حكم فقهي؟ نحن الفقهاء ندير الحكم على هوانا وهوى حكامنا، ونحوّل الرذائل الطائفية إلى مقدسات. وما كان حراما هنا نجعله حلالا هناك أو واجبا. أنا لا أريد أن أدخل إلى الحدث من المدخل الفقهي، بل من المدخل القانوني، لأنه انتهاك لسيادة سوريا لصالح نظام انتهك سيادة لبنان دائما. لا أريد أن أؤصّل فقهيا أمورا كالديمقراطية أو الدولة المدنية، ويمكن أن أجد لها أصلا. ولكن فقيها آخر، أقوى مني أو أفقه أو أغنى أو من حزب قوي، يجد أصلا للدولة الاستبدادية. ويبقى الالتباس بين الحق والباطل قائما ومن دون حل. أنا مرجعيتي مختلفة، وليس في الدين الإسلامي وصف للدولة. الدولة من ضرورات المجتمع، والقانون هو قوام الدولة. قانونيا تدخُّل حزب الله في سوريا سواء كان شيعيا أو سنيا ليس قانونيا. أما الحرام والحلال فأمر يمكن اللعب عليه دائما، وكما حصل دائما”.

 

وحين سألته إن كانت لديه مخاوف من الاغتيال أو التصفية، من طرف حزب الله، صاحب الباع الطويل في هذا المنهج مع خصومه ومخالفيه الفكريين والسياسيين، ردّ: “كل الإسلاميين أو الإسلامويين أو حملة السلاح والإسلام السياسي يمارسون الإعدام من دون مرجع شرعي أو قانوني، ويأخذون حقوقهم المدّعاة أو الباطل بأيديهم، لأنهم لا يستطيعون أن يكونوا تحت سقف القانون والحق في الحرية والتعبير والحق في ارتكاب الخطإ والمعصية تحت طائلة المحاسبة بمعناها الشرعي والقانوني المسؤول. أنا لا أقول بأني لا أخاف، ولكني عاقل وخوفي خوف العقلاء وليس جزعا أو رهابا، وأنا حذر جدا، ومشغول بالنقد العميق والجدي وليس بالعداوة والقسوة، ولا أعتقد بأن حزب الله قد وصل إلى حدّ الاضطرار لتهديد أمثالي، غير أن هناك سفهاء يمكن أن يرتكبوا الحماقة، وحزب الله مضطر أن يغطيهم ويبرر لهم، لأنه، في حالة الفتنة، بحاجة إلى السفهاء أكثر من العقلاء. وفي الوقت المناسب، سوف نتوارى لنستمر في موقفنا”.

 

في حياتي تعرفت على رجلي دين، من الضفاف الأخرى كما يمكن أن يقال، وأحببتهما بصدق، لكنهما كانا شجرتين وحيدتين هناك، لم يصبحا غابة، وها إن الضفاف الأخرى تبدو لذاتي عارية جرداء، بعد غياب الأب باولو في عتمة المجهول، فيما هو يبحث عن أنوار الحقيقة ويصنعها، وها هو الرجل الحكيم هاني فحص يتوارى، فيما يتكاثر السفهاء كالبقول.. إنه ليس الوقت المناسب يا سيّد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى