هزّاع البراري في أعالي الخوف… أو قمة الألم الوجودي! / د. غسان اسماعيل عبدالخالق ( الأردن)

الجسرة الثقافية الالكترونية – خاص – 

 

(1)

يومًا بعد يوم، تتراجع رواية (البطل) في الأردن، مخلية مكانها –عن طيب خاطر- لرواية (النّكرة)! لأسباب موضوعية عامة، ولأسباب إبداعية خاصة؛ ففي ظل انحسار الاهتمام الجمعي بالقضايا القومية الكبرى وعلى رأسهاقضية تحرير فلسطين، وفي ضوء انغماس الناس في نمط الحياة الاستهلاكية، ونظرًا لما أصاب شبكة العلاقات الاجتماعية من تهتك وتفسخ وتباعد، فضلاً عن تنامي أعداد الفقراء وتزايد نسبة العاطلين عن العمل الذين راحوا يملأون المقاهي والأرصفة، يغدو السرد البطولي ضربًا من الحراثة في بحر. هذا من جهة العام، وأما من جهة الخاص، فإن كل من تابع خطاب هزاع البراري الروائي، يمكنه التنبؤ بانحيازه التام لهموم الإنسان الهامشي والمقموع والمفجوع والمطارد وبهواجسه الميثولوجية والوجودية العارمة.


(2)

في هذا السياق الجمعي والإبداعي، تندرج رواية (أعالي الخوف) للروائي الأردني هزاع البراري، بوصفها نداء نوعيًا في وادي الوحدة المطبقة والشعور العارم بالذنب والعجز التام عن انتشال الذات من وهدة القلق وتبكيت الضمير أو القدرة على انقاذ الآخر من التردي في قيعان الضياع. ومما يسترعي نظر الناقد في (أعالي الخوف)، هذا التطاول في معمار السرد الوجودي، إلى الحد الذي بات معه الهم الوجودي، متنًا راسخًا ينتظم الأحداث والأشخاص من البداية حتى النهاية، بعد أن كان ضربًا من الزركشة الروائية التي كان يروق لمعظم الروائيين تطعيم أعمالهم بها، من باب سد الذريعة، وحتى يظهروا بمظهر المثقفين السارتريين المسكونين بنموذج المثقف المأزوم الباحث عن الحقيقة بعد أن أضاع اليقين. وأحسب أن الروائيين العرب بوجه عام، والروائيين الأردنيين بوجه خاص، قد رموا بهذا الخصوص، عن قوس نجيب محفوظ في مأثرته الروائية الخالدة (ثرثرة فوق النيل)!.

(3)

على الرغم من أن (أعالي الخوف) تتحرك –ذهابًا وإيابًا- في حيز زماني يقارب مئة عام تقريبًا، ومع أنها تتمدد جغرافيًا على مساحة جغرافية شاسعة تمتد من البلقان شمالاً إلى مصر وليبيا جنوبًا ومن الصين شرقًا إلى فلسطين غربًا، إلاّ أنّها تتمركز زمانيًا في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين (2000-2010)، كما تتمركز مكانيًا في شمال ووسط الأردن (إربد – عمان – مأدبا). ومن الضرورة بمكان، ملاحظة حقيقة أن هذا التمدّد الزماني والمكاني ما هو إلا استعارة روائية تكثف معنى الحنين إلى الماضي البسيط البعيد وتنعاه في الوقت نفسه، فضلاً عما يمكن لهذه الاستعارة أن توفره للسارد من إمكانيات التأريخ والاسترجاع والتأمل وحتى التنظير، لكن الصّورة … أو الواقع الذي يطمح السارد لترسيخه في مخيلة القارئ، يتمثل في ما تبقى من عيادة الدكتور بطرس الكائنة في طلوع المصدار بعمان خلال العقد المنصرم (2000-2010)! إنه (المايكرو / الزمكاني) الذي يلخص أطروحة الرواية شكلاً ومضمونًا.

(4)

على كثرة الجموع أو الشخوص الذين تمور بهم الرواية، ماضيًا وحاضرًا… بل ومستقبلاً!!! إلا إنها –وفي ملمح وجودي لافت- تظل (روايةَ شخصيةٍ) في المقام الأول، أي أن السارد فيها يتخذ من رسم الشخصية، تقنية أساسية للبناء، رغم كل ما يمكن أن نلحظه من استطراد أو وصف أو ملاحقة للأحداث هنا أو هناك. ومن الملاحظ أن هناك ثلاث شخصيات رئيسة سمح لها السارد بالتنامي والنضوج، سواء عبر إعطائها فرصة النظر لذواتها في مرآة ذواتها أو عبر إعطاء غيرها فرصة النظر إليها لإلقاء مزيد من الأضواء على دواخلها، وهي: بطرس، وفارس، وإبراهيم.

أما بطرس فهو طبيب أسنان مسيحي من مأدبا، والده أردني وأمه إيطالية. ولأن أمه إيطالية فقد تمكن من دراسة طب الأسنان في إيطاليا ثم عاد إلى مأدبا في أوائل النصف الثاني من القرن العشرين. ورغم المنافسة الشديدة بينه وبين (النّوَر / الغجر) على صعيد معالجة وتركيب الأسنان، إلا أنه نجح في استقطاب العديد من المرضى لقاء أجر زهيد. وشاءت الأقدار أن تضع في طريقه البدوية الشابة المشاغبة (عليا) فيغرم بها وتغرم به، لكن أشقاءها سرعان ما يلقون بها في بئر عميق ثم يسحقون (رجولته) بكعوب بنادقهم، ليظل عبرة لمن اعتبر، فيضطر لإغلاق عيادته في مأدبا، والانتقال إلى (طلوع المصدار) في عمان، وقد ظفر من كل هذه المأساة بصورة يتيمة لحبيبته، كان قد طلب من مصوّر مجهول أن يلتقطها لها، فعلّقها في صدر عيادته، وراح يتعبّد في محرابها آناء الليل وأطراف النهار، حتى اضمحل مرضاه، ولم يتبق له من دنياه سوى وزنه الزائد وكأسه المترع على الدوام، وصديقه الوحيد … فارس!

وأما فارس، فهو ابن جندي حارب في القدس وحاول جاهدًا التعويض عن شعوره بالهزيمة عبر الاجتهاد لتعليم أبنائه وتمكينهم من الحصول على أعلى الدرجات العلمية، وهذا ما حدث؛ فقد حصل ابنه فارس على درجة الدكتوراه في الإعلام وأصبح أستاذًا جامعيًا مرموقًا وكاتبًا صحفيًا مشهورًا. لكنه سرعان ما ينهار على وقع إصابة زوجته / حبيبته / زميلته بسرطان الرحم واضطرارها لاستئصاله وإصرارها على الطلاق، نأيًا بنفسها عن مشاعر الإشفاق وحتى لا تغدو حجر عثرة في طريق سعادته. فيغرق نفسه في سلسلة من العلاقات الغرامية العابرة التي تستهلك أجمل ما فيه من أفكار ومشاعر، ثم تلقي به الأقدار إلى عيادة الدكتور بطرس وتسترعي انتباهه لوحة البدوية الغامضة، وتتوثق بينهما عرى الصداقة المهزومة، فكانا كالمتعوس الذي عثر بخائب الرجاء!!

وأما إبراهيم، فهو ثالث الأثافي الذي يختصر في شخصه كل المتناقضات وأكثرها غموضًا وإيلامًا؛ فهو سليل جيلين من الأولياء ذوي الكرامات، لكنه يتمرّد على هذه الوراثة، ويقرّر الإمعان في شكوكه الديكارتية رغم التحاقه بكلية الشريعة، على مضض من أبيه وأمه وأقاربه. ولا يعدم أيضًا قسطه من عبث الأقدار به، فمن بين كل زميلاته اللواتي استرعى انتباههن بسلفيته اليسارية! يتعلق قلبه بطالبة جامعية ماركسية وتتعلّق به ظنًا منها بأنه طالب في كلية الآداب بحكم تعدد المساقات الجامعية التي اجتازتها معه في هذه الكلية، لكنها ما إن تعلم بأنه طالب في كلية الشريعة، حتى تبادر للابتعاد، لأنها –ببساطة- مسيحية!! وإمعانًا منها في الابتعاد نهائيًا، تقرر الهجرة إلى كندا وتودّعه وتستودعه صليبها، فيتمزّق عاطفيًا فوق تمزقه الوجودي، ويظل هذا التمزق ملازمًا له حتى بعد أن يصبح إمام مسجد في جبل القلعة، ثم يزداد بعد أن أصبح نديمًا للدكتور بطرس والدكتور فارس!!

(5)

هكذا يختزل هزاع البراري الواقع، أو الماضي والحاضر والمستقبل! في ثلاثة أشخاص يعانون من الانفصال التام عن الواقع، والانبتات المفجع عن الماضي والحاضر، وانعدام الثقة بالمستقبل؛ فيموت بطرس –كما يموت البعير- في عيادته، محاطًا بصديقيه المهزومين اللذين تحاملا على إحباطهما وتكفلا بدفنه قرب حبيبته في مأدبا بعد أن نجحا في رشوة حارس المقبرة! ويعود إبراهيم إلى قريته (بشرى) ليدفن والدته ويدفن معها آخر أمل لأبناء القرية في عودته، ويتناثر فارس على مذابح هزائمه الساحقة أمام عشيقاته اللواتي يصغرنه في السن، ويتعاقبن على توبيخه وتعريته جرّاء جبنه وانتهازيته العاطفية المعلنة. مع ضرورة التنويه بأن ذاكرة المكان تزداد توهجًا كلما تحرك السارد في شوارع وأزقة وأحياء عمان الشرقية، وتبهت كثيرًا كلما تحرك في أحياء عمان الغربية، وكأن حداثة الغربية بلا تفاصيل أو ملامح، وكأن عراقة الشرقية ما زالت حبلى بالروائح والمضامين والدلالات. هكذا يحكم السارد على أستاذ الاتصال بالانفصال، وعلى القديس باستمرارية العذاب، وعلى الولي بدوام الشقاء! ويا له من ألم وجودي يفيض من جنبات هذه الرواية، ويا له من يقين مكسور يجرجر أذيال خيبة الأمل بما كان وبما هو كائن وبما يمكن أن يكون!

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى