هلمُّوا إلى الطَّائثنيَّة / د. نضال البغدادي (استاذ الفلسفة في الجامعة العربية المفتوحة لشمال امريكا

الجسرة الالكترونية الثقافية ـ خاص ـ

نارُ الطَّائفيَّة والاثنيَّة لم تُبقِ على أخضرٍ ولا يابسٍ في بلادنَا إلَّا وأتتْ عليهِ بشراهةٍ مفرطةٍ إتْيَان النَّار في الهشيم، وواقعُ الحالِ يُغني عن تفصيلِ المقال، فلا حاجةَ بنا لسردِ الأحاديثَ عن قُوى متكافئة الصَّدحِ بالولاءِ للوطنِ والمواطنِ والوطنيَّة.

ما الحل لإيقافِ هذه المهزلة؟

هل هي المصالحة مثلًا؟ إنَّها مجرَّد شعار أجوف، جميع الأطراف موقنة بأنَّه أُلعوبة إعلامية رخيصة، ورغم إدراكِ الجميع بوضاعتها وابتذالها فلا محيصَ لأحدٍ منهم عن الجأر برفع راياتها، لانتزاع تعاطف الأنصار والمؤيِّدين وإعطاء المبرّر بزيادةِ الغلّ والاحتقان ضدّ الآخرين. هي “كلمةُ حقٍّ يُراد بها باطل” وفي بلادنا، بل بلداننا، توجدُ بدل كلمة الحقِّ الواحدة كلمات، بل معاجمَ عتيدة، جميعها تُرِّوج لمقلوبِ مقاصدها وغاياتها، حتَّى باتت آذان الطَّوائف تسمعُ المُضمر أكثر من المُظهر، فلو قال قائلهم: أنَّنا نُريد الخير لبلادنا، لفهمت: أنَّهم يريدون الشَّر لبلادنا، ولو قيل: نحنُ نريدُ تطبيق الدّستور والقانون، لفهمت: هُم يُريدون تحريف الدّستور وخرق القانون… وهكذا استشرى الدَّاء، وصار وباء وأيّ وباء!

لقد ولّد ذلك كله ما نسميه “العقل الطَّائفي -الاثني” أو اختصارًا “الطائثني”، وهو عقلٌ فعّال بأنماطٍ من التَّفكير الهدَّام للأخر. كوّن لنفسه منظومةً معرفيَّةً قائمةً على الصدامات الحجاجية، وهو لا يفتأ يُزوِّد جميع الأطراف المتنازعة بما يفاجئ جماهيرها بإبداعاته في إثبات الذَّاتِ على حساب نفي الآخر. ومَن الخاسر في ذلك كله؟ الجميع، الوطن والمواطن والوطنيَّة.

إنَّ هذا العقل بما فيه من مناهجَ ورؤى، هو عقلٌ غبيُّ بامتياز، وغباؤه يتجلَّى في تمزيق ما يُريد رقعه، وفي تحطيمِ ما يُريد إصلاحه، وفي تهديم ما يريد ترميمه. إنَّ فاعليَّة هذا العقل ناجزة في تحقيق مقلوب ما يفترض أن يتحقّق.

علينا هنا أن نُثبت ملاحظة نظنّها حتميّة، وهي أنَّ الفاعليَّة العقليَّة الطائثنيَّة قد استفحلت حتَّى تجاوزت النَّقطة الحرجة، فما عاد يُجدي الآن إيقاف هذا المَدّ غير العقلي، بواسطة المنطق، ذلك أنَّه يمتصّ طاقة أي منطق ليقوّي من إمكاناته ويضاعف من قدراته، هو عقل في فاعليته كفاعلية الخلايا السَّرطانيَّة، تحوِّل ما يلامسها من خلايا تسالميَّة إلى خلايا تساقميَّة.

وإذًا، علينا أنْ نستنهضَ السُّؤال مجدَّدًا، ما الحل؟

أعتقدُ، أنَّه وبما أنَّنا لا نستطيع أنْ نبترَ أو نقنعَ أو نواجهَ، بسبب الَّلاجدوى من هذه الأفكار، فإنَّ الحل هو أنْ ننطلقَ من فكرة الَّلاحل، والَّلاحل ليس نفي الحل، بل هو ومن منظور فلسفة التَّضامر: لا مثيل الحلّ المألوف أو المتوقّع أو المُتساوِق مع المعضلة الَّتي أمامنا. ولا مثيل ذلك كله يُعبر عنه ببساطة في المقولة المأثورة: (وداوِها بالَّتي كانت هي الدَّاء).

إنَّ العقلَ الطائثني هو الدَّاء العضال المنتشر في جسم العرب والمسلمين، وعِلّة ذلك الدَّاء، هي أنَّه يسعى للاستئثارِ بكلِّ شيء، إنَّه عقل أحاديّ دكتاتوريّ شموليّ توسّعيّ اقصائي… وبالجملةِ هو عقل ذاتي لا تعدّدي.

وإذا كان ما يُغذِّي هذا العقل المريض هو بذل أقصى الطَّاقات للانتصار على الغريم، فإنَّ الحل –ولو كان نظريًّا أو جزئيًّا- قد يَكمن في إمكانيَّة استغلال هذه الرَّغبة المحمومة للتفوّق والغلبة، وطريقة الاستغلال تتمثَّل في محاولة التدخل كثقل ثالث بين الخصوم، وذلك بإبراز القدرة على إمكانيَّة الفوز والانتصار في مجالات لا سياسيَّة ولا دينيَّة، وإنْ كانت تتقاطع معها أحيانًا، وتلك المجالات هي مثلًا: العلم الطبيعي، الرِّياضة، الأدب، الفن (الرَّسم، النَّحت، الزَّخرفة، المهن الحِرف)، الخدمات الاجتماعيَّة، وما إلى ذلك.

لو شعرتْ إحدى الطَّوائف أنَّ الطَّائفة الأخرى تُحاول أنْ تتغلَّب عليها في هذه النَّواحي، فإنَّ أمامها خيارين: إمَّا أن تُحاول تخريب مشَاريعها، وقد تفعلْ، لكن هذا المسعى لا يُمكن أنْ يصمدَ كثيرًا إذا ما كانت الإنجازات مُتتابعة ومُتزايدة، وإمَّا أنْ تحاولَ أنْ تتغلبَ عليها بأنْ تَنشُط في تلك المجالات لتأتي بما هو أفضل؛ لأنَّها عقليَّةٌ استفزازيَّة، حين تُستفزُّ لا تصمد إلَّا أنْ تأتي بالأقوى لتبقى متصدّرة المشهد. وبهذا تُستنفرُ الطَّاقات السَّلبيَّة للعقلِ الطَّائثني لتفعيل ما يَبني الوطن، وهذا إنْ تكاثرَ فسينعكسُ -شاءَ العقل ذلك أم أبى- إيجابًا على المواطن.

وفي هذهِ الحالة تكون الآية قد انقلبت، إذْ يصبح الأمر وكأنَّ “كلمة الباطل يُراد بها الحق” والمقصود بالباطلِ هنا هو رغبةُ العقل الطَّائثني في إضعافِ الخصم، تُصبح محفِّزًا للخصمِ كي يقوى في الإبداع والإنتاج والإبتكار، فينقلب السِّحر على السَّاحر، ويتحوَل مسَار العقلِ من الطَّائثنيَّة إلى اللاطائثنيَّة.

في تحويلِ المسار المفترض هذا، لم نضطّر لتغيير أيّ نمط من أنماط التَّفكير الدِّيني أو القومي، بل فرضنا على تلك الأنماط الدّخول في لعبةٍ أخرى، وتركناها تستخدم حساسياتها الأحاديَّة للتقدّم فيها، والمتحصّل المتوقّع من ذلك هو نتَائجَ حتمية لا تماثل الواقع الحالي.

* * *

علينا الآن أنْ نطرحَ التَّساؤلات التفنيديَّة لفكرتنا هذه، وأول هذه التَّساؤلات هي: هل هذا الطَّرح واقعيّ أم مثالي؟ أي هل توجد معطيات يمكن أن تتحوَّل فيه هذه الفكرة إلى واقعٍ ملموسٍ أمْ هي مجرّد فكرة نظريَّة حالمة؟

هذا مع العلم أنَّ هنَاك تجربةً واقعيَّةً قامتْ بتطبيقِ هذه الفكرة لكنَّها لم تمسّ العقل الجمعي الطَّائثني قيد أنمُلة، وتلك هي تجربة كردستان العراق. فقد شهدَ كردستان العراق، نهضةَ إعمارٍ للبُنى التَّحتيَّة، وهناك مشاركات فعَّالة في المجالاتِ الرِّياضيَّةِ والثَّقافيَّةِ والفنِّـيَّةِ وإنْ كانَ هناك ضعفٌ في المجالينِ العِلمي والخَدمي الاجتماعي. لكن عمومًا، كردستان العراق تحرَّكَ وما زال باتِّجاه التَّقدم والتَّطور. وهذا كلّه لم يدفع العقل الطَّائفي على محاولة المنافسة للانتصار.

في الواقع أنَّ النَّظر لهذا المثال بهذهِ الكيفيَّة يُؤدِّي بالضَّرورة إلى تفنيد الفكرة بالفعل، ولكن علينا ألَّا نغفلَ الوجه الَّلامثيل لهذا الطَّرح، فلو نظرنا بالمقلوب، لرأينا أنَّ العقلَ القومي الكردي يُحاول بالفعِل الانتصار على العقل القومي العَربي من خلالِ الَّلعب على ورقةِ التَّنميَّة الاقتصاديَّة والثَّقافيَّة والرِّياضيَّة. وكلما زاد الَّلاعمار في الوسطِ والجنوب، زادَ الشَّمال في الإعمار. إذًا، بالنِّسبة للشّق القومي الكردي، الفكرة تعمل بصورةٍ جيِّدة، لكن عدم وجود تأثير إيجابي كردّ فعلٍ لها في الوسطِ والجنوب، هو ما يُؤخذ عليها. ونحن نقول: نعم، وذلك له أسباب معطّلة سنأتي عليها، لكنْ على الأقل أو مبدئيًّا فشطر من الفكرة له صدى على أرضِ الواقع، فهذا الشَّطر دليلُ تحقيق لا تفنيد.

وبالمجيء على أسباب الَّلارد الفعل المتوقع، أي سبب عدم نهوض العقل الاثني برد فعل إعماري ليقابل فعل الإعمار القومي الكردي هو أنَّ جذور الإشكال الطَّائفي أعمق بما لا يُقاس من جذورِ الإشكال في العقل الاثني، فالأهمّ هو التّغلب على الخصم الطّائفي لا الخصم الاثني، ومن هنا بدت الخسَارة متكافئة بالنِّسبة للغريمينِ الطَّائفيّين، فإذا كان الشَّطر الشِّيعي لم يُعمر فعزاءه أنَّ الشَّطر السّني لم يعمر أيضًا، والعكس بالعكس.

والاختبار الحقيقي الَّذي يمكن أنْ نثبتَ على أساسهِ خطأ فرضيتنا من صحتها؛ هو فيما إذا نهضَ تنمويًا أحد الشَّطرين الطَّائفيين ولم يُولِّد ذلك ردّ فعل للنُّهوض المقابل، أو بالعكسِ ولَّد ردّ الفعل المفترض، في هذه الحالة -وبها فقط- نستطيع أنْ نحكم.

والسُّؤال الآن هو: كيفَ يُمكنُ جعل أحد الشّطرين على الأقل يتحرّك نحو طلب الانتصار التّنموي لا السِّياسي ولا الطَّائفي؟

هل بواسطة النّاشطين في الدّاخل وبخاصَّة الشَّباب عن طريق مواقع التَّواصل الاجتماعي، ليطوِّروا وعيًا جديدًا قادرًا على تحقيق المعادلة الصَّعبة.

أم بواسطة النّخب المهاجرة غير المتقعقرة طائفيًّا، وتفعيلها لتثقيف جماهيرها نحو التَّوعية المعرفيَّة والعلميَّة والثَّقافيَّة.

أم أنَّ مسارَ تاريخنا لنْ يتغيَّر إلَّا بحدثٍ كونيٍّ غير متوقّع. قد يكون حركةً مفاجئةً في أقصى الأرضِ لجنَاحِ فراشَة؟!

للحديث بقية…..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى