هل كانت أفكار “أركون” غريبة لدى المثقفين ؟

الجسرة الثقافية الالكترونية
*جهاد فاضل
في كل مرة كنت ألتقي الدكتور محمد أركون، وقد التقيتُه مرارًا في باريس وبيروت والرياض، كان يحمل على شعار “الأصالة”. لقد كان من رأيه أن هذا الشعار لا يستحق التبجيل الذي يُعطى له عندنا عادة. لماذا؟ لأن الماضي برأيه لا ينبغي تكريسه إلى الأبد واعتباره مرجعًا لا يجوز الاقتراب منه إلا بورع.
الماضي له حسناته الكثيرة ولكن له سيئاته أيضًا، وحتى حسناته لا يجوز تحنيطها والتوقّف عندها، وإنما ينبغي تجاوزها باستمرار وبالتالي الإضافة إليها. وفي الحوارات التي أجراها معه الباحثان رشيد بن زين وجان لوي شليجيل، يعود أركون إلى شعار الأصالة هذا ليرفضه كما رفضه دائمًا: “الكثيرون يقولون ينبغي أن نعود إلى التعاليم الأصلية للتراث، إلى مصدر وأصل كل شيء. من هنا نتج مصطلح الأصالة، مع أن الأصول التراثية تطرح ألف مشكلة ومشكلة بالنسبة للإنسان المعاصر الذي يعيش في ظل المجتمعات الحديثة. تحت كلمة “المصدر” أو “الأصل” تنتصر الإيديولوجيا الأسطورية.
لقد تولد عن ذلك مسار الفكر الإسلامي السياسي الحالي والحركات المتزمتة مع كل النتائج المؤذية المعروفة. في المغرب حذفوا تعليم الفلسفة إبان فترة صعود حركات الإسلام السياسي لإرضاء الجماهير ورجال الدين الذين يكفّرون الفلسفة.
كان محمد أركون يدرك جيدًا مدى غربته وغربة فكره لا عند الجمهور العريض من المثقفين بل وأحيانًا عند الأكاديميين العرب أحيانًا. ونلحظ ذلك من كتابه الذي نعرض له. يسأله المحاورون له: هل حصل لك أن التقيت بالدعاة المسلمين وتناقشت معهم؟ فيجيب: نعم لقد التقيت ببعضهم، ولكن لا يوجد أي إمكان للنقاش، فأنا أتحدث بالضرورة مستخدمًا أدوات المؤرخ الحديث ومناهجه، كما وأستخدم أدوات النقد الأنثروبولوجي ومصطلحاته، وكذلك أدوات التحليل الألسني والسيميائي للخطاب اللغوي، وكلها أشياء يجهلها هؤلاء الوعاظ والدعاة كليًا. كيف. يمكن أن نتناقش؟، على أي أساس؟، لا توجد أرضية مشتركة بيننا. بالطبع أنا أستطيع أن أفهمهم، أنا أعرف من أي موقع يتحدثون وعمّ يتحدثون ولكن العكس ليس صحيحًا، فهم لا يستطيعون أن يتفهّموا مواقعي الفكرية، وبالتالي فالنقاش ليس فقط مستحيلًا بل أن موقفي مرفوض كليًا بشكل مسبق».
إن ما يشير إليه أركون معروف وطبيعي، إنه صراع الأفكار والأجيال والعقليات، أو لنقل إنه صراع الفكر المتحول المتغير مع فكر آخر يوصف عادة بالمتحجر أو الجامد. إنها الطبيعة الإنسانية في كل مكان وفي كل زمان. وقد لقي أركون متاعب كثيرة حتى في حياته الأكاديمية في السوربون بباريس مع زملاء آخرين لهم كان يجلّهم ويجلّونه مثل البروفيسور جاك بيرك الذي كان أستاذه في الجامعة. يصف أركون بيرك «بالصديق اللدود». ماذا يعني ذلك؟ يعني أن بيرك كان أستاذه وصديقه، ولكنه كان يختلف معه في أمور كثيرة.
ويقف أركون في كتابه وقفة طويلة مع البروفيسور إدوارد سعيد. يسألونه ماذا كان موقفه تجاه أطروحات إدوارد سعيد، فيجيب: كان رد فعلي أولًا:
الإعجاب. لقد كان إدوارد سعيد ذا موهبة عالية وشخصية فريدة من نوعها.
كان فلسطينيًا وكانت مواقفه عن فلسطين والسياسة الإسرائيلية دائمًا نّيرة ونافذة البصيرة بشكل مدهش. وبالإضافة إلى صداقتنا التي لا تشوبها شائبة كنا نتشاطر أفكارًا كثيرة، ولكن كانت هناك بعض الاختلافات أيضًا. وذلك لأنه كان يمكن أن نحب بعضنا بعضًا ونختلف مع بعضنا من دون أن نتخاصم ونتعارك. ربما كان الاختلاف في وجهات نظرنا ناتجًا عن اختلاف تخصصنا العلمي.
إدوارد سعيد كان أستاذًا لتاريخ الأدب الإنجليزي. كان «أديبًا» بالدرجة الأولى وبالتالي فالمعارف والبحث العلمي عن الإسلام كدينِ وثقافة وحضارة، لم يكن من اختصاصه. كان يدرّس شيئًا آخر ويختص بمجال آخر مختلف تمامًا.. والشيء الذي دفعه إلى تأليف كتابه عن الاستشراق هو أساسًا ملاحظاته كمثقف على ما كان يقال ويكتب في الأدبيات الناطقة بالإنجليزية عن العالم العربي والإسلامي.
لم يكن يتقن اللغة الفرنسية، ولكنه قرأ ودرّس المؤلفين الفرنسيين. إذن فإن مجال الأدب الفرنسي لم يكن غريبًا عليه، بل ولا حتى المجال الواسع لآداب البلدان الأخرى. وبصفته فلسطينيًا عربيًا انتهى به الأمر إلى الاهتمام بالطريقة التي نظر بها الغربيون عمومًا إلى الإسلام والعالم العربي.
وينتقل أركون بعد ذلك إلى «نقد» إدوارد سعيد، أو إلى ملاحظاته عليه.. «لقد راح يتجاوز حدود مجاله المعرفي الخاص، إذ قال ما قاله في هذا الكتاب. وبما أنه تجاوز صلاحياته المعرفية، وكان جاهلًا أكثر من اللزوم برهانات سياسية أخرى عديدة، فإنه في رأيي أعطى أهمية مفرطة في أحاديثها للحدس الأولي الذي دفعه إلى تأليف كتابه عن علاقة العلماء الغربيين بالشرق. وقد نتج عن ذلك أنه لم ينتبه بما فيه الكفاية إلى الإسهام التضخم الذي قدّمه «التبحّر الأكاديمي الاستشراقي» إلى دراسة العالم الإسلامي، وبشكل خاص إلى دراسة تاريخ المجتمعات الإسلامية، يُضاف إلى ذلك أن دراسات الباحثين الغربيين أفسحت أيضًا مكانًا واسعًا لعلم الفيلولوجيا وللتاريخ النقدي والنقد التاريخي للأديان.
ويرى أركون أن الاستشراق قدّم خدمات مهمة للعالَمين العربي والإسلامي، «وإلا فماذا نمتلك نحن غير أبحاث المستشرقين؟ أين هي الأبحاث العلمية الجادة عن التراث الإسلامي في اللغة العربية أو الفارسية أو بقية اللغات الإسلامية»؟.
ولكن ما هو اللوم الذي تأخذه على إدوارد سعيد؟
ويجيب أركون:
– آخذ عليه أنه لم يقرأ هذه الأشياء، أو أنها لم تكن تدخل في دائرة اهتماماته.
فقد كان مشغولًا بالبواعث السياسية التوسعية للاستشراق قبل أي شيء آخر. وهذا الموقف الذي اتخذه كان مفهومًا تمامًا ويستحق الاحترام ولا أستطيع ان ألومه عليه. فبعض الاستشراق، أو أحد جوانبه، خدم الإدارة الكولونيالية في أثناء التوسعات أو الفتوحات الاستعمارية».
ومن بين من يعرض لهم أركون في حواراته الإمام الأوزاعي الذي لا يأتي ذكره عادة إلا عرضًا عند الحديث عن الأئمة الكبار في الفقه الإسلامي في حين أن الأوزاعي عالم كبير ذو شأن ولكن حظه كان سيئًا. كان الأوزاعي، كما يقول أركون، «إمام مذهب فقهي ولكنه انقرض على الرغم من أن الرجل كان منظّرًا دينيًا كبيرًا. كان يعيش في الأندلس حيث لا يستطيع أي مذهب آخر أن يفرض نفسه ما عدا مذهب مالك، ولهذا فإن الناس نسوه وأهملوا رأيه. لقد أصبح مذهب مالك وحيدًا في الساحة، مهيمنًا هيمنة شبه مطلقة على العقول. لقد ألّف الأوزاعي كتبًا رائعة. ودبّج رسائل كاملة لتبرير رفض ما رفض.
ماذا كان رأيه أو الحل الذي اقترحه؟ كان يعتقد بأنه ينبغي الالتزام بالنصّ فقط وتشغيله أو تأويله بطريقة ذكية مرنة تتيح لنا أن نجد حلاّ للمشكلة. وإذا لم نجد أي شيء فينبغي أن نستلهم النصّين المقّدس والآثار الدقيقة التي يمكن أن نجدها فيهما. وكان معه الحق في ذلك. فعندما ندرس المناقشات التي دارت حول العلاقة القياسية الكائنة بين المعطى اللاهوتي القرآني أو الحديثي من جهة، والمعطى الفقهي أو القضائي من جهة أخرى، فإننا نرى أن هذه العلاقة ضعيفة جدًا في الغالب، أو غير مقنعة».
في هذه الحوارات التي تقدم فكرة جلية عن سيرة محمد أركون، يروي الباحث الجزائري الكبير جوانب من تجربته الأكاديمية في باريس وماذا استفاد من الغرب وأساتذته ومناهجه. يقول: «عندما وصلت إلى باريس تابعت دروس أساتذة مدرسة الدراسات العليا في السوربون أكثر مما تابعت دروس المستشرقين المستعربين. هناك بالضبط تلقيت تكويني العلمي الحقيقي واكتشفت العلوم الاجتماعية». وهل ساعدتك أعمال كلود ليفي شتراوس على فهم بنية القرابة في منطقة القبائل بالجزائر؟
لا، ليس شتراوس هو الذي ساعدني. الجزائر تشكل جزءًا من العالم المتوسطي البعيد عن اهتماماته وأعماله الفكرية كان مهتمًا بشكل أساسي بدراسة الشعوب البدائية في البرازيل وأمريكا اللاتينية، ثم إن من يهتم بتاريخ الفكر الإسلامي وكذلك الفكر اليهودي والمسيحي بكل ديناميكيته السياسية وأهميته بالنسبة إلى حياة مجتمعاتنا، فإن أبحاث شتراوس قليلة الفائدة بالنسبة إليه. طرح بول ريكور مرة سؤالاً عليه حول بحوثه العلمية وما إذا كانت قابلة للتطبيق على المجتمعات التوحيدية، المناهج نفسها والأدوات نفسها التي طبقها على المجتمعات البدائية العتيقة، فأجابه: «لا أتجرأ على المغامرة في هذا المجال»! إنه جواب يعبّر عن نزاهة محترمة بحدّ ذاتها ولكنه ليس كافيًا على الإطلاق لأن على الباحث أن يخاطر بنفسه ويدخل في غمار هذه المسائل السياسية الدينية.
ولكن ما الذي آثر فيك في نهاية المطاف؟ ويجيب أركون:
– فيما يخص أبحاثي تأثرت أكثر بالأعمال الأولى لبيار بورديو عن الجزائر.
ولكن بشكل خاص أشعر بمديونية معرفية كبيرة تجاه علم التاريخ، النقدي الاسترجاعي التأملي على طريقة فرنان بروديل أو إيمانويل لوروا لادوره أو سواهما. هذا التاريخ التأملي الاستبطاني أو الاسترجاعي الانعكاسي مضافًا إليه ما قاله بروديل عن البحر الأبيض المتوسط مثلًا كان شيئًا مهمًا جدًا بالنسبة إلي.
تعرّفت إلى بول ريكور في الخمسينيات في مدينة ستراسبور الفرنسية كان إنسانًا لذيذًا ناعمًا ذكيًا. وعرفت الشيء نفسه مع بيار بورديو بعد بضع سنوات من ذلك التاريخ.
وكنت قد حضّرت في جامعة الجزائر شهادة الدراسات العليا تحت إشراف جان لوسرف . كان إنسانًا مرهفًا جدًا من الناحية الفكرية ولكنه لم يكن أستاذًا مثبتًا أو ذا كرسي. كانت تلك الفترة صعبة جدًا ومقلقة فعلًا من حياتي لأني لم أكن أستطيع الاستمرار في الجزائر ولا كنت راغبًا في ذلك على الخصوص. كانت الشهادة الجامعية التي نلتها عام 1953/ 1954 تحمل العنوان الآتي: «الجانب الإصلاحي من أعمال طه حسين» وقد سببت لي بعض المشاكل. طه حسين هو الكاتب المصري الكبير الذي ولد أعمى كما هو معلوم وقد خلعوا عليه لقب عميد الأدب العربي وقد مات سنة ١٩٧٣. كان يمثل إحدى الشخصيات الهامة في النهضة أو الحركة الإصلاحية في الإسلام. ومعلوم أن هذه النهضة ظهرت في القرن التاسع عشر واستمرت حتى عام ١٩٤٠ تقريبًا. ويمكن القول بأن طه حسين كان ضحية التجليات الأولى لما ندعوه الآن بالحركات الإسلامية أو الأصولية. فقد هاجموه بشدّة بعد ظهور كتابه عن الشعر الجاهلي. ولكن على الرغم من عقلانيته وتنوره: إلا إنه كان لا يزال يعالج في كتابه الكبير «الأيام» (١٩٢٩) الأدب ما قبل الإسلامي بطريقة أسطورية جدًا. نقول ذلك على الرغم من أنه شرع في أطروحته عن ابن خلدون في السوربون بتطبيق المنهجية الفيلولوجية عن التراث. وهي منهجية كان يدرّسها آنذاك جوستاف لانسون. ولما كنت قد سمعت سابقًا بلانسون وبالنقد الأدبي في فرنسا، فقد كنت أمتلك الأسلحة العلمية الضرورية لقراءة طه حسين بطريقة نقدية عبر ما كان هو نفسه قد تعلمه عندما كان يحضّر أطروحته.
في جامعة الجزائر لم أتلقّ إلا معرفة نحوية أو لغوية بالعربية ولا شيء أكثر من ذلك. أما البحث العلمي عن العالم الإسلامي من خلال علم التاريخ وعلم الاجتماع وعلم الأنثروبولوجيا فلم يكن له أي وجود. وبالتالي فقد كانت هناك عواقب وخيمة لمن يعتمد الفكر النقدي الحر في دراسته وبحوثه. والدليل على ذلك ما حصل لي شخصيًا. فقد دعيت من قبل اتحاد الطلاب الجزائريين لإلقاء محاضرة عن طه حسين في «بيت الطلبة» وقد استعرضت فيها نتائج بحوثي من أجل التخرج ونيل شهادتي. انتقدت إلى حدّ ما طه حسين من وجهة نظر علمية.
هاجوا في وجهي وتلقيت ردود فعل عنيفة، راحوا يقولون: ماذا ألا يعجبه طه حسين؟ لم ينقصنا إلا ذلك! ويتجرأ على القول بأنه ليس مثقفًا كبيرًا، أو ليس هذا ولا ذاك؟ بالطبع أنا لم أقل الأمور على هذا النحو، وإنما فقط بيّنت بأن طه حسين يعاني من بعض الضعف من وجهة نظر المنهج التاريخي عندما درس موضوعًا يخص كل تاريخ الإسلام السياسي والعالم الإسلامي. ولكن حتى هذا النقد المخفف كان مرفوضًا من قبل الطلبة لماذا. لأن الخطاب القومي المتشدد كان يجتاح بأضراره وسلبياته جمهور الطلبة. لم تكن ردود فعل الطلبة ذات طبيعة علمية وإنما ذات طبيعة أيديولوجية. لم يحاولوا مثلًا أن يفهموا بطريقة نقدية تاريخ الحركة الإصلاحية لعصر النهضة العربية، وإنما تصرّفوا بطريقة تؤدي إلى تقوية صورة الجزائر المناضلة من أجل استقلالها، وبالتالي ففي مثل هذا الجو لا ينبغي على أحد أن يقول أي كلمة تخفض من قيمة القادة الفكريين الكبار للعالم العربي. الوقت ليس للعلم والبحث الفكري الحر وإنما للأيديولوجيا التعبوية النضالية!.
كنت إذن قد اخترت هذه الشخصية الفكرية الكبرى طه حسين لأني أردت التعمق في أعمال رجل متدرب على الأعمال النقدية الحديثة وراغب في دراسة الأصول الثقافية للعالم العربي. ومن المعلوم أن النظرة التي نلقيها على المثقفين حاسمة، وبالتالي فينبغي علينا أن نشرع أيضًا بكتابة التاريخ النقدي لما يدعوه العرب «بالنهضة» ومثل هذا العمل يشكل جزءًا من نقد العقل الإسلامي. فالنهضة ليست كاملة ولا معصومة وإنما تعاني من نواقص عديدة كأي حركة فكرية كبرى.
أعمال ومؤلفات محمد أركون تمتد على أكثر من أربعين عامًا، فهل يشعر بأنه أنجز كل مشاريعه؟.
لا. أبدًا يجيب. كنت قد أشرت في كتاباتي المختلفة إلى مشاريع وورشات بحوث كثيرة لم أستطع تحقيقها لأسباب وجيهة، كانت في رأسي مخططات لأبحاث أساسية، ولكني لم أستطع الشروع بها وتحقيقها لأني بشكل واعٍ أو غير واعٍ قبلت الدعوات الرسمية لإلقاء المحاضرات في شتى أنحاء العالم. كما قبلت المشاركة في حلقات درسية ومؤتمرات لا حصر لها ولا عدّ. لقد كانت عندي في الواقع مهنة أخرى موازية لمهنة البحث العلمي.
وقد مارست هذه المهنة وتابعتها في جميع بلدان العالم تقريبًا. لا ريب في أنني استفدت من كل هذه المحاضرات والمناقشات والتساؤلات التي طُرحت علي، واعتقد أن الآخرين استفادوا أيضًا، ولكن هذه الفعالية الشفهية الضخمة حصلت على حساب البحوث المكتوبة. لولاها لكانت مؤلفاتي أضخم بكثير.
يتحدث محمد أركون في حواراته عن مسائل مختلفة مما يتحدث عنه «العقل الإسلامي» وهو ما تحدث عنه بإسهاب المفكر المغربي الدكتور محمد عابد الجابري. يرى أركون أن العقل البشري ليس إسلاميًا ولا مسيحيًا ولا يهوديًا. العقل البشري واحد في المطلق. يفكر بالأدوات الأرسطوطاليسية أو بالعقل الأرسطوطاليسي الذي يستخدمه ابن رشد في الجهة الإسلامية كما يستخدمه توما الأكويني في الجهة المسيحية. يستخلص من ذلك أن هناك عقلانيات عديدة، عقلانيات مرتبطة قليلًا أو كثيرًا بما يدُعى عمومًا بالعقل، أي بالعقل المطلق إذا جاز التعبير. بعض العقلانيات تقبل بأن تستخدم الأدوات الفلسفية ولكن بعضها الآخر لا يقبل إلا بمعطيات التراث الديني، وبالتالي فهاتان العقلانيتان لن تشتغلا أو تمارسا دورهما بالطريقة نفسها. من هنا الحاجة لإجراء تفكير جاد حول الخلاف الكائن بين هاتين النوعيتين من العقلانية: أي العقلانية الفلسفية والعقلانية الدينية.
وانطلاقًا من هذا البحث الجاد نتوصل إلى بلورة العقل الذي يمكن أن يفرض نفسه على الجميع. ينبغي علينا تجييش علوم عديدة من أجل تحليل هذه الاستعمالات – أو اللا استعمالات – للعقل!، وبالتالي فإن نقد العقل الإسلامي هو عبارة عن نقد تجليات العقلانية التي ظهرت في مجتمعات خاضعة للإسلام أو تقوده من قبله أو مشروطة به عبر مراحل ثقافية ولغوية من تاريخه.
ويقول أركون: أُذكّر هنا، مرة أخرى، بالشيء الآتي: كم كانت دراسة استعمالات اللغة المكتوبة، وتاليًا تشكيل الخطابات، هامة جدًا بالنسبة إليّ على مدار أبحاثي. تسألونني عن كلمة «علم» بحسب ما هي واردة في النص القرآني، إنها تعني كلام الله الذي يعرف كل شيء ويعلّم كل شيء، وبالتالي فإن دراسة العلم بشكل متعمق تجعل المؤمن قادرًا على معرفة كل كلام الله وتطبيقه عمليًا في حياته الشخصية. لا ينبغي أن نخطئ في فهم كلمة علم هنا فنسقط عليها المعنى المعاصر.
على هذا النحو يمضي محمد أركون في إجاباته عن أسئلة محاوريه.
كان عالمًا كبيرًا ومرجعًا ذا شأن في دراسة الإسلام عقيدة وتراثًا وتاريخًا. ومن المؤسف أن نشاطه كمحاضر وكمشارك في ندوات ومؤتمرات كان على حساب أبحاثه ودراساته. ومن المؤسف أكثر هو موته المبكر نسبيًا. إلى اليوم ما زلت أذكر لقاءاتي معه، ومعها اعتداله وعقلانيته وتدفقه في الشرح والتعليل والتفسير. وبموته انقضى أحد علماء الإسلاميات الكبار في زماننا الراهن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الراية