هيدي لامارا: أثر الفراشة لا يزول

الجسرة الثقافية الالكترونية
مي فاروق
في ذلك الليل، تحت الأضواء، بعيداً عن السجاد الأحمر الممتد، أخذ عازف البيانو يعزف بمهارةٍ، تنبعث من معطفه رائحة الدخان والتاريخ معاً، في حين حلقت الفراشة بعيداً في حالة تشبه الشجن والنشوةِ معاً، حاولتْ أن تقول شيئاً لكنها سقطت في هدوء قاتل بينما ظلت عيناها مفتوحتين.
إنها باختصار كانت حياة فراشة الاربعينيات من القرن الماضي، إنها هيدي لامارا اللوحة الانثوية المبهرة والعبقرية معاً والتي احتفل بها غوغل في التاسع من نوفمبر/تشرين الثاني الحالي.
رأيت في قصتها خيوطاً درامية متعددة جاذبة وفريدة، بل ومثيرة للتساؤل، أمور تجعلها أشد عمقاً من كونها دمية هوليود الفاتنة التي ارتدت فستانا من ريش الطاووس يضم أكثر من ١٩٠٠ ريشة، في فيلم “شمشون ودليلة”، بعد أن قضى مخرجه سيسيل دوميل عشر سنوات من تربية طيور الطاووس حتى يجمع هذه الكمية من الريش.
العجيب في دليلة، تلك المرأه الغربية صاحبة الفيلم الاغرائي “النشوة” أنها بعد أن تنطفيء الأنوار، تطل بوجهها التقني الجاد، لتبدأ قصةٌ أخرى لكن هذه المرة ليست سينمائية، بل معملية بحثية جادة تديرها مع صديقها عازف البيانو جورج أنثل لتصل لاختراع تقنية تمنع الغواصات الألمانية من التشويش على الاتصالات اللاسلكية للحلفاء، معتمدة على تغيير تردد الموجة اللاسلكية الحاملة للإشارة بطريقة شبه عشوائية بحيث يصعب على أي طرف غير المرسل والمستقبل تتبع الأمر فيما أُطلق عليه مصطلح “القفز الترددي” والذي استخدم في نطاق واسع في الواي – فاي، وتقنية البلوتوث، و G P S .
عموما، لن أخوض في تلك التفاصيل العلمية البحتة لأنها ليست مقصدي، كما إنني لا أريد الكتابة المباشرة عن هيدي لامارا، فهي كانت كفيلة بالحديث عن نفسها من خلال أعمالها وإنجازاتها، وإنما وجدت على خلفية حياتها أمورا أثارت بداخلي الكثير من الاستغراب والشجن والتساؤل، فوراء قصتها العديد من الخيوط المتشابكة وسأعرض لتلك الأمور تحت عناوين فرعية:
• نهاية قاتمة لفراشة محلقة
في حياة لامارا الكثير من المواقف الانسانية الرائعة ذات الإرادة الفاعلة، فبعد أن وقعت زوجة للعجوز فريتز ماندل صانع الأسلحة والذخائر لأدولف هتلر، وجدت نفسها غير قادرة على مواصلة الحياة، خاصة وأن أصولها اليهودية تجعلها ترفض ذلك بشدة، فتجمع متعلقاتها الأثيرة من حلي ومعاطف وغيرها وتتنكر في زي خادمة، وتهرب لفرنسا ومنها إلى هوليود لتبدأ قصتها السينمائية والعلمية معا، لتتوصل لاختراعها الذي لم تحصل منه على أية امتيازات مادية حيث اعتبرته اميركا سلاحا سرياً أثناء الحرب العالمية الثانية.
انتهت الحرب، ومرت الأيام ولم تستمر الأضواء كثيرا، فسرعان ما انطفئت، واختفت السجادة الحمراء، وتنكسر أجمل امرأه في العالم، تسرق وتُسجن، وتموت في النهاية وحيدة في فراش فقير وبارد، وهكذا دوما هوة الموت في الفراش الوثير.
أما الأمر الثاني والذي أراه بتكثف وحيرة وتعقيد، سأسميه:
• صناعة العلم ليست صدفة
لم تكن لهيدي لامارا – المخترعة الوحيدة التي مشيت على السجادة الحمراء، والتي جمعت بين الأضواء والعلم – مثيلات لها، بل من نفس طائفتها هناك مايم بياليك (الممثلة الاميركية اليهودية التي اشتهرت بأدوارها الكوميديا في المسلسلات الاميركية، مثل مسلسل الست كوم “نظرية الانفجار”، هي أيضا عالمة في الأعصاب). وهناك أيضا راقصة البالية في فيلم “البجعة السوداء” ناتالي بورتمان التي شاركت أثناء دراستها باختبار أسلوب سهل لانتاج الهيدروجين من السكر باستخدام الانزيمات، كما قدمت دراساتها في الجامعة العبرية عن الذاكرة وكيفية تنشيطها من خلال التحليل الطيفي للأشعة تحت الحمراء القريبة.
ما يثير الانتباه ليس فقط أن مثل هؤلاء الفنانات يبطلن المتلازمة العربية بأن الجمال والنباهة لا يجتمعان، بل يجعلنا نلاحظ أن الفنانات قد ينحدرن من أصول ثقافية واعية بخلاف أغلب فناناتنا المنحدرات من الجهل والملاهي والمراقص.
بل ما أثار انتباهي وجعلني أصرخ غاضبة هل من باب المصادفة أن الثلاث ممثلات ينحدرن من أصول يهودية، أم أن الموضوع له علاقة بما يسمى “اليهود وصناعة العلم”، أو نظرية الأمن اليهودي، والتي تعطي أولوية استثنائية لتطوير العلم والتكنولوجيا، كما رأى بن غوريون أن التكنولوجيا والجامعات هي مركب هام لبناء دولة إسرائيل، لذا لا غرابة أن يتصاعد استثمارات الجيش الاسرائيلي في التكنولوجيا.
وهل من باب المصادفة أن تقوم شركة intel الاميركية في أواسط السبعينيات بافتتاح مركز أبحاث وتطوير لها في إسرائيل، بمثابة خطوة متقدمة لوضع إسرائيل في مجال الصناعة والتكنولوجيا، هل المصادفة تبرر هذا التحكم والسيطرة اليهودية في مجال الاتصالات الدولية لنجد مثلا شركة جوجل الاميركية التي تربح من العمل في مجال الاعلان والمرتبط بخدمات البحث على الانترنت ورسائل البريد الالكتروني مؤسسها لاري بأيج، وسيرجي برين، وهما يهوديان.
وتستمر المصادفة لنجد مؤسس أكبر مواقع التواصل الاجتماعي (فيس بوك) وهو مارك زوكر بيرغ، يهودي، لتسيطر شركته على أكثر من مليار و نص مستخدم شهرياً، والذي استحوذ أيضا على تطبيق التراسل الفوري (واتس أب) مقابل ١٩ مليار دولار، الأمر الذي يجعلنا نتساءل عن أبعاد تلك الصفقة، التي لا يحصل منها سوى على اشتراك ضئيل من المشترك سنويا، و لكن يبدو أن امتلاك الرسائل النصية والمحادثات في العالم تستحق ١٩ مليارا.
أظن أنه ليست من المصادفات في شيء ان يحتكر اليهود شركات التكنولوجيا والاتصالات العالمية (فيس بوك، واتس اب، فيبر، انستجرام، ماسنجر).
في ظل تلك المصادفات السالفة الذكر تأتي مصادفة أخري لكنها محزنة، وهي أنه وفقا لاحصائيات منظمة العمل الدولية، واليونسكو، حوالي ١٠٠ ألف عالم وطبيب ومهندس عربي يغادرون أوطانهم للغرب بلا عودة.
يبدو أن الموضوع أكبر من احتفاليةجوجل بالفاتنة لامارا تلك الفراشة التي أثرها لم يزل، في حين ترحل فراشاتنا ولا تعود مثلما قال الرائع محمود درويش:
أثر الفراشة لا يزول
هو جاذبية غامض
يستدرج المعنى ويرحل
حين يتضح السبيل
المصدر: ميدل ايست اونلاين