«وارسو قبل قليل» لأحمد محسن.. هويّة المنشأ والحنين

الجسرة الثقافية الالكترونية
*حسن نصور
/ المصدر السفير
تتداخل الهويّات في «وارسو قبل قليل» عن «دار نوفل» للروائيّ اللبنانيّ أحمد محسن. يسهل على القارئ الانسياق خلف دلالاتها. مشاهد قد تعكس بالضرورة إحالات نمطية (التيه اليهوديّ، الغيتو، إشكاليّة اليهود، إسرائيل..) غير أنها إحالاتٌ يمكن وضعها ضمن أنساق تحيل الهويّة بسؤالاتها وإشكالاتها على مساحة خاصّة غير نمطية في النصّ يبدو المكان الأصلُ فيه (وارسو) أثرا داخليّا، راسخا، حميما من غير المجدي الخروج عنه ومنه. وتاليا تصير الامكنة الاخرى لغةً لا تلائم التائهَ إلا بقدر ما تعرّف ذلك المكان، الهويّة.
عمليّا، لا تأخذ الديالوغات في نصّ صاحب «صانع الالعاب 2012» مساحات وازنة. إنّها قليلة ومقنّنة جدّا وتفتح المجالاتِ واسعة للسان القاصّيْن المتكلّميْن الأساسيّيْن تعليقا وتوصيفا وحفرا خلف الشخوص بوتيرة تلزم هذه الشخوص ضمن كادرات انطباعات الراوي الحادة غالبا. ثمّة متنٌ لغويّ جذّاب ومقتدرٌ ومتماسك. إنها شهوة النصوص المصنوعة جيدا. في هذا الحيز، تتمرأى «وارسو قبل قليل» بسابقتها «صانع الالعاب» من غير تقليد وبجدّة عالية. بنيةٌ لا تنفك تخلق بلاغيتها ضمن شبكة متينة (تشابيه واستعارات حسيّة في الغالب). بلاغيّة لا تخرج في آن، كونها بلاغةً، عن الحاجة المعقولة للنصّ الروائيّ السلس والخالي من الثرثرة أو المغرق في تفاصيل جانبيّة تسوق القارئ صوب مربعات الإملال.
يعيد السرد، ذو الخاتمة شبه المعلّقة، إنتاج السؤال المركزي في ذهن المتلقيّ. نعني سؤال الهويّة الدينيّة وارتباطها بالمنشأ وتقاطعها مع مسائل لا تزال منمّطة ومحكومة أفقيا بثنائية اسرائيل اليهود الهويّة. في العمق، ظل الراويان، الجدّ والحفيد، يعيدان إحياء وارسو في أغلب مساحات المبنى الروائي، شذرا. إنه خيط أصيلٌ سوف يظلّ يصل الشخصين ولو تقلبت الوجوه بخساراتها وعقدها واختناقاتها وأمكنتها المتعدّدة بين وارسو وبيروت، المدينتين التوأمين (نور زوجة الميليشياوي المنتحرة وذات الاصول اليهوديّة، ليا خالتها…). والحال أن تلك العلاقات الانسانية والحيوات التائهة والمركّبة، عند الراويين، لم تبد في أي مفصل من مفاصل حكيهما إلا طبقات خارجية لا تحجب نوستالجيا «وارسو» الا بقدر ما تؤجّجها وتؤصلها في التراكيب (تفاصيل مخيم الاعتقال أوشفيتز على لسان الجدّ، قرية زيلافولا، إصرار الحفيد على تصحيح لفظ المنطوق أوشفيتز.. أوشفينيم، الامنية الاخيرة للجد: «أريد أن يضعوا ذرّاتي في عادم طائرة وينثروها فوق الغيتو» ص37…)
يتوالى السرد، شكلا ومضمونا، ضمن زمانين هما خطان متوازيان: الجدّ البولندي اليهوديّ الناجي من معسكر الاعتقال النازي الشهير (أوشفيتز) في الحرب العالمية الثانية والمستقرّ بعدها بسنين في بيروت كمسيحيّ فلسطينيّ. إثر هجرة شبه قسرية من وارسو التي وقعت في قبضة الشيوعيين الروس نحو اسرائيل حيث لا يروقه هذا السجن الجديد فيتبادل البولنديّ أوراقه الثبوتية مع يهوديّ فلسطينيّ، التروتسكيّ الأخير. يعبر الحدود. يستقرّ في بيروت كمسيحيّ فلسطينيّ مستفيدا من مرسوم تجنيس خاصّ. يتزوج الجدّ اليهوديّ المتعمّد حديثا ماري المسيحية. ينجب منها فادي والد «الحفيد» الراوي الثاني. يُقتل فادي اثناء قتال الاسرائيليين خلال غزو 1982. بعدها يغادر الجد بحفيدة قافلا الى بولندا. يرجع الحفيد بعد انتهاء الحرب الاهليّة 1990. وأخيرا، يقرر الحفيد بدوره نهائيا سنة 2006 العودة الى وارسو.