«والليل أليل»… انطوان بارود في الأوائل والأواخر

الجسرة الثقافية الالكترونية
جوزف صايغ
أخيراً، بعـــد مسيـــرة سبعة عـــقـــود وسيرة تضاهي سيرة الشاطر حسـن، أصدر أنطوان بارود، على مشارف السبعــين، أوائلـــه وأواخـره دفعةً واحدةً، وارتاح في اليوم البعد الأخير.
كتاب صغير يفيض بالمباغتات والطرائف والمبتكرات اللغوية. لكنـــه، علــى صغــره، وسع أنطوان بارود على كثرته! فقــد أفــرغ فيه حاله فجاء مثل أنطوان بارود: خارج المألوف.
«ديوان كلام»، يقول عنه صاحبه. لكنّه كلام بأشكال أخرى غير أشكال الكلام. كلام استضيع فيه صاحبه الورق، واستضيع الورق بهذا الكلام، كما يقول حرفياً. هذا ليس رأينا. لأنه كلام يفاجئ القارئ بالمبتكر عند كلّ منعطف سطر. وهو ينطوي على مجهود تأليفيّ يبدو أقرب إلى اللعب والطيش، لكنّ وراءه كدّا وجهدا.
لقد حاول انطوان بارود أن يستقرئ المعاني المألوفة مجاهيلها المكنونة، فكان أن قلب كلّ شيء على كلّ شيء. مع ذلك لم يفلتْ من قلمه ذلك الخيط الرفيع، الذي يشدّ الخيال الى المفهومية والواقع.
وهذا ما يجعل الكتابة عنه ممكنةً، ويجعله جديراً بأن يعرف، وأن يقرأ، وأن يقرأ بعناية وتمعن في ما يبدو بلا معنى، وهو في ما وراء المعنى والعناية بالبناء. كلام يدور على أطراف نائية للبيان، فيقع، احياناً، في مهاوي القول ومنقلباته.
وكأنما أنطوان بارود قد فصد أعصــابه وأجـــرى عصابها في هذا الطفـح المعصوصف على حدود الوصف: جنون، وهلوسات، وتخيّلات، وطيش لغـــويّ أو تسكّـــع عاطفيّ ـ إنما على خفر ـ وتلميح حميم… وحنين. حنين يترقرق فـــي السطور فور ما تداني الذكريات: «وجه أمّي في المرآة يؤكد لي أننـــي حيّ»… شاربــاً والده الأشعثان كشلْح أرزة هرمــــة آيلة إلى انكسار.»… «كان فلاحــاً فـــي الصيف معمرجياً في الشتاء، كانت عـــدّة عمره منجلاً ومطرقة وكان يمينياً متطرفاً». «في عزّ سنّ اليأس… سنّ التقاعد… عاطلا عن الكلام»…
لا. لا فائدة من تقديم الشواهد على تلك البهلوانات اللغوية الشيّقة، التي تشوّق في هذا الكتاب (وهل هو حقاً كتاب) وتشدّ القارئ من أول سطر حتى آخر كلمة.`
وليست أقلّ طرافات أنطوان بارود أنه ســرق عنـــوان كتابـــه من أشهر السارقين العرب، وأهضمهم، عنيت ثابت بن أوس الأزدي. نعم ما سواه: الشنفرى.
هل من يعتدي على من جعل الاعتداء على الناس مهنةً يعتاش منها؟
هذا ما فعله بارود ربما لشعور منه بوحدة الحال مع صعلوك العرب الشهير، فاختلس منه عنوان غزوة هي بمثابة الحرب العالمية أوجزها الشاعر بثلاثة أبيات واختصرها بارود بليلة ليلاء لائلة:
وليلة نحْس يصْطلي القوْس ربّها وأقْطعه اللاتي بها يتنبّل
دعسْت على غطْش وبغْش وصحْبتي سعار وإرزيز ووجْر وأفْكل
فأيّمْت نسواناً وأيْتمْت إلْدةً وعدْت كما أبْدأْت والليل ألْيل
لعل هذه «الليل الأليل» قد لخصت الشنفرى الباريسي، كما قفلت معركة الجاهليّ الظريف، فاستلهم لامية العــرب ليكتب لامية الغربة. من يدري؟ فقــد تكون مكابدات أنطوان الفرنسية تشابه معاناة ثابت بن أوس الجاهلية: ففي التقارب، على التباعد، قربى…
منذ الصفحة الأولى «فكّ بارود ربطة عنق الزجاجة … وأخواتها» ليكتب «سفر تكوين الفشل»، فكان فشله نجاحاً، وزجاجته سكراً طيّباً، و «مكسر عصاه» مكسراً أدبياً جميلاً، ممتعاً، ومحبّباً، نرتاده بمتعة.
المصدر: الحياة