«وجوه» علي الدميني تواجه السائد

الجسرة الثقافية الالكترونية
أحمد زين
يأخذنا هذا الكتاب، «في الطريق إلى أبواب القصيدة» (نادي المنطقة الشرقية الأدبي) ليس فقط إلى النص الشعري الذي بلوره الشاعر السعودي علي الدميني (1950) طوال عقود من الزمن، حتى أضحى لحظة أساسية في المشهد الشعري المعاصر، في السعودية والخليج، إنما أيضاً إلى الناقد والروائي والصحافي والمثقف الملتزم قضايا وطنه والمناضل في سبيلها، إذ يتيح هذا الكتاب أمام القارئ فرصة تأمل الوجوه المتعددة، لصاحب «رياح المواقع» الذي لا يزال يعيش في قلب المعترك الشعري والثقافي، منذ أكثر من 40 سنة، وأيضاً منذ أن استطاع لفت الأنظار بقصيدته البديعة «الخبت» التي أخذت شهرة واسعة، ولا تزال حاضرة بقوة في الذاكرة الشعرية، وتميزت بالملحمية وبتراكيبها ومزجها بين أنماط شعرية، فصيحة وعامية، قديمة وحديثة، مستحضرة تارة ومتماهية تارة أخرى مع الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد، مثيرة الأسئلة حول الهوية والذات والوطن، مروراً بدواوينه التي أصدرها واحداً تلو الآخر، وطبعتها مشاغل اللحظة الزمنية المتقلبة وتغيرات المجتمع، طوراً تنم عن إدراك للشعر، يتطور بتطور المعطيات، وطوراً آخر يرسم، من خلال تواليها، تخوم متحوله الشعري، في ضوء رؤيته للوجود.
إذاً، يأخذنا هذا الكتاب الذي يضم دراسات وشهادات وحوارات وصوراً، إلى علي الدميني بصفته عابراً للأنواع والأجناس الأدبية، وباعتباره ناقداً ومثقفاً ملتزماً، فهو شاعر يعده شعراء شباب كثر أحد آباء القصيدة الحديثة في المملكة، وأحد رموزها الذين رسَّخوا تجربة فريدة، أغنت المشهد الشعري وشرعت نوافذه على فضاءات جديدة، وهو ناقد أظهر حيوية نقدية لافتة في مقارباته لعدد من المبدعين، لعل في مقدمهم الشاعر والكاتب الكبير محمد العلي الذي خصه بكتاب، تحول مرجعاً لا غنى عنه للوقوف على اللحظات المهمة في المشروع الشعري والثقافي لصاحب «لا ماء في الماء».
وهو أيضاً كاتب «الغيمة الرصاصية» (1998) التي لئن كانت روايته الوحيدة، إلا أنه يحلو للكثير من النقاد والقراء، التطرق إليها بصفتها واحدة من روايات قليلة عبرت عن مجتمعها، وتقصت أحوال الذات في تقاطع أزمنة ولحظات متغيرة، وإن جاء ذلك في نص تبدَّى حلمياً ينحو إلى الترميز، تميزه شاعرية كثيفة، وتجريب تشتبك فيه شخوص الرواية مع الراوي، ليطرح تساؤلات غير مباشرة حول النص والواقع والكاتب. رواية تقارب تعقيدات اللحظة، نتيجة تداعيات حرب الخليج، بتقنيات معقدة. وتحضر السيرة الذاتية، إنما في شكل يدفع الذات إلى النأي والمراوغة، فلا تنكشف صراحة أمام قارئ متربص.
تعبيرية جديدة
لم يكتفِ الدميني الذي حاز جائزة الثبيتي للإبداع، بالكتابة في أجناس تعبيرية مختلفة، إنما أيضاً ربط اسمه بمشاريع ثقافية طليعية، تركت أثراً لا يُمحى في المشهد الثقافي السعودي، من نواحي الانفتاح على التجارب الشعرية والأدبية في الوطن العربي والعالم، ومحاولة الاشتباك مع هموم المرحلة وأسئلة الثقافة في بعدها التنويري، ومن هذه المشاريع، «ملحق المربد الأدبي» الذي أسسه في عام 1974 في صحيفة اليوم، وكذلك إشرافه على تحرير مجلة «النص الجديد»، وتأسيسه موقعاً إلكترونياً جعل منه منبراً يعنى بقضايا الإبداع والحوار.
شهدت تجربة الدميني منعطفات حاسمة، وتشهد على تحولات في المجتمع وفي الأفكار، وتمارس اختراقاً مستمراً للأجناس؛ سعياً إلى تعبيرية جديدة، مفتوحة على أكثر من أفق. كأنما الدميني يضيق بالكتابة في جنس واحد، فيذهب إلى هذا التعدد، سعياً إلى إدراك العالم أو رؤيته بطرق مختلفة. ويبدو فعل الكتابة لدى صاحب «زمن للسجن أزمنة للحرية»، يكتسب معناه وأهميته من تحديه الدائم للسائد، ومن مواجهته كلَّ ما يكبح من الانطلاق ويضيّق حركة الذات، في ما يشبه المقاومة لكل أشكال التسلط، في الثقافة والمجتمع، مقاومة تأخذ بدورها هيئات مختلفة، ووجوهاً متنوعة. وفي كل كتاب له، يعرف الدميني كيف يستدرج القارئ إلى لحظته الخاصة التي تنطوي على إبداعية متفجرة، ورؤى خلاقة، وتوحد مع بشر حالمين خذلتهم مجتمعاتهم.
في الكتاب الذي قدم له رئيس نادي المنطقة الشرقية الأدبي القاص خليل الفزيع، إضاءة واسعة لمنجز الدميني، وشاركت فيه نخبة مميزة من النقاد والمثقفين والشعراء، من السعودية والوطن العربي، مثل: محمد العلي، محمد سعيد طيب، أحمد عائل فقيهي، محمد الدميني، شتيوي الغيثي، محمد علوان، شوقي بزيع، إسحاق الشيخ يعقوب، نجيب الخنيزي، فهد الخليوي، أحمد سماحة، عبدالله وافيه، آمنة بلعلي، عبدالناصر هلال، حافظ المغربي وغيرهم.
ينتمي الدميني، وفق الكاتب صالح الصالح، إلى جيل ولد كردّ فعل على هزيمة 1967، وهو من القلائل جداً، وفقاً إلى الصالح نفسه الذين تجاوزوا أنفسهم «ليظلوا دائماً في الزمن الآتي». وتعتبره الشاعرة سعدية مفرح واحداً من شعراء الأمة «الذين تعايشوا مع نكساتها المتتالية، من دون أن يفقدوا قدرتهم على الحلم، ليس عبر الشعر فحسب، ولكن أيضاً من خلال المشاركة الحقيقية في هموم مجتمعاتهم ومحاولة إزاحتها بكل ما أوتوا من قوة كامنة». أما الشاعرة والكاتبة فوزية أبو خالد فتجد صعوبة في الكتابة عن علي الدميني، «من دون الكتابة عن سيرتي الذاتية شخصياً في تيارها الجماعي والمتعدد معاً». وتصفه بالشاعر المتمرد «شكلاً ومضموناً كرياح البحر التي لا تستطيع تحمل ملل الاستقرار… رجل منذور للمشاريع الجادة المشاغبة، مهجوس بالحركة إلى الأمام».
ويكتب الناقد معجب الزهراني: «عرفت الدميني منذ أيام الدراسة الجامعية، وما عرفته إلا وهو يراوح بين صورتين لنموذجين ثقافيين فاتنين كل الفتنة بالنسبة إلى أمثاله، فهناك نموذج الشاعر الصعلوك الذي ما إن يعي فرديته ويختبر حريته حتى يخرج على القبيلة، ليعيش ويكتب ضد تقاليدها التسلطية. النموذج الثاني، يخص المثقف النقدي الذي لا يفوضه أحد للنيابة عن المجتمع، لكن وعيه عادة ما يدفعه إلى كشف الحقيقة والدفاع عن قيم الحق والخير والجمال، واثقاً أن هذا مبرر وجوده ورهان حياته، وهذا ما قاله وفعله مفكرون بارزون». ويعزو الشاعر جاسم الصحيح الثراء في تجربة الدميني إلى سعة الاطلاع على التراث الإبداعي عربياً وعالمياً، «وقدرته الفائقة على توظيف هذا الموروث الثقافي في لغة موسيقية إيقاعية مجملة بالرؤية».
جماليات اليومي والكوني
يضم الكتاب أيضاً شهادة شعرية لعلي الدميني، جاءت عميقة وشاملة وتطرقت إلى مفاصل مهمة في تجربته الشعرية والثقافية والشخصية، يقول فيها أن الشعر «يفتح أعيننا على جماليات تفاصيل المعاش اليومي والكوني، مثلما يعيننا على امتلاك القدرة لمقاومة عنف الحياة وقسوة أيامها». وفي الشهادة يتحدث صاحب «بياض الأزمنة» عن طفولته الفقيرة، لفقده الأم، وأن التوله والوجد والبحث عن مثال الحب، في الأم، التي فقدها، قاده إلى التعلق بالمرأة، منذ أزمنة طفولته الغضة، فتفتح قلبه على عشق النساء باكراً. يتوقف أيضاً عند افتتانه بالشعر الشعبي، «كمخيال جمالي مهيب». ويتطرق إلى بدايات كتابة القصيدة، سواء عمودية أو تفعيلة. الدميني يشير إلى أن تكوينه الثقافي وحساسيته الشعرية بنيا على ذائقة مفتونة بالاستمتاع بالجمال الذي يدهشها.
التطورات الحضارية المتعاقبة ساهمت، في رأيه، في تطور جماليات التعبير الشعري وأشكاله أيضاً. ويوضح أنه في سياق البحث الدائم عن المتغير والجديد في سيرورة الحياة، تجيء قصيدة النثر، «ليس لكونها ابنة المدينة فحسب، إنما كدلالة على تحقق الذات واستقلاليتها عن كل المؤسسات، وكعلامة على اكتفائها بذاتها في شتى المناحي الحياتية والثقافية. وبذلك تستعيد مخيال الإنسان القديم كواحد ومتوحد، يعبر بانطلاقة حرة عن مشاغله وعواطفه، عارياً من استبطان ظلال الهم الجمعي، أو استعارة آنيته الموسيقية».
ويذكر صاحب «مثلما نفتح الباب» أنه جرب كتابة قصيدة النثر، ونشر بعضها عام 1974 وأيضاً ضمّنها بعض دواوينه، وعلى رغم ذلك، فهو، كما يقول، لم يجد ذاته الفنية والثقافية تحديداً متحققة فيها أو مخلصة لها، لذا بقيت بالنسبة إليه تجريباً لكتابة متن شعري مختلف فحسب.
المصدر: الحياة