وداعا براءة العالم ليوسف رزوقة إضاءة-د.حيدر البستنجي(الأردن)

الجسرة الثقافية الالكترونية-خاص-

” وداعا براءة العالم” رواية جديدة  للشاعر والروائي التونسي يوسف رزوقة صدرت عن “دار العين للنشر”، وقد أعلنت الدار عن ترشيحها مع روايتي “شوق الدراويش” لحمور زيادة و”جنة البرابرة” لخالد صويلح لجائزة البوكر العربية لسنة 2015.

تقع الرواية في 608 صفحات، من القطع المتوسط. استهلّها المؤلف  بقوله” مَنْ لَمْ يَكُنْ فِي حَيْرَةٍ مِنْ أَمْرِهِ، لاَ يَدْخُلَنَّ رِوَايَتِي”. حيث يطل على جرح الربيع العربي بكل شفافية. فتاج نوح  الشخصية الظل في الرواية يطرح سيرته كالتّالي: “لماذا أذهب بعيدا؟ أنا نفسي مادة تروى. انسوا قليلا أنّني تاج نوح، زمّار الحيّ .. ومزّقوا الحجاب وأصغوا إليّ..” 

تتكون الرواية من 36 قطعة  يتناوب فيها تاج نوح وسلطان أسطون البديل والنقيض انطلاقة الثورة التونسية من جوانب عديدة وزوايا مختلفة، إذ ينبش داخل عوالم الحياة اليومية التونسية من خلال مستشرقة تأتي لزيارة صديقها التونسي فتفاجأ بنبإ وفاته وهي بالمطار. ويصف الكاتب الوضع التونسي وتاريخ تونس من وجهة نظر غربية إلى أن يصل إلى الشرارة التي كانت بداية الربيع العربي.

منذ البداية يدخلنا  يوسف رزوقة إلى عالم التوجس من القدر ومن جميع المسلمات. يرى أن هذه الدنيا قد فقدت لونها الوردي الساحر وبرائتها  فينقل لنا أحداث الماضي وما قبل الثورة التونسية والبدايات ليس من وجهة نظر توثيقية ولكن عين ناقدة تنظر نحو المستقبل

تدور أحداث الرواية حول ثلاث شخصيات رئيسية، هي تاج نوح وسلطان أسطون ونورية أرتاخو. يعّرف الكاتب تاج نوح بقوله: “تاج نوح، 55 سنة من مواليد وادي العسل، لون عينيه: من لون عيني أمه، كستنائي، الحالة المدنية: أعزب، متزوج وطليق، هوايته: الحرث في البحر، سوابقه: إهدار طاقة في إشعال كومة تبن، إهمال عيال وإيذاء نفس أثناء مباشرة حلمها، مؤهلاته العلمية: خريج كلية طلاَّبها أَساتذتها ، المشروع المزمع بعثه: بناء سجن لِإيواء المجرمات من بنات أَفكاره والمجرمِين من أَبطال روايته؛ المدّة المقْتَرحةُ لِإِنجاز المشروعِ: أَلف ليلة وليلة؛ التّكلفةُ الجملِيّةُ للمشروع: أَعصاب مدمّرة بالجملة وبالتّفصيل؛ ما المطلوب؟: دعمه، معنويّا، على الأَقَل وإخراجه بريئا من غياهب السّجن الذي بني وزجّ بنفسه فيه”.

 إذن نحن أمام شخصية محورية تتوارى كالظلال لنقد الواقع السوريالي القائم وتبشر بالقادم  ولكن القادم مغتصب حياة تاج نوح وعديله سُلْطان أُسْطُون ، اشتهر عندما كان تلميذا، بـ”أسطى سلطان أسطون”. هكذا كان زملاؤه ينادونه، أسوة بأستاذ الرّياضيّات الّذي كان يحلو له أن يناديه هكذا لأنّه كان التّلميذ الوحيد القادم من عاصمة الجنوب صفاقس الّتي غادرها وعائلته.

وأخيرا نوريّة أرتاخو، وهي مستشرقة إسبانيّة، فوجئت وهي في طريقها إلى تاج نوح، في المطار، بأنه قد “مات حزنا على وطنه” لتسير الرّواية في طريق استدعاء الماضي وإرث الأجداد في “بئر أريس”، وأيضا سقوط الأندلس وضياعها على يد “الفرخ” ابن عائشة وبقايا الموريسكيين حيث نكتشف أن تاج نوح نفسه من أحفاد الموريسكيين أيضا.تمر في الرواية أحداث كثيرة ومتداخلة مثل استباحة بغداد و الأوطان العربية، وكذلك حادثة اغتيال خليل الوزير في عقر بيته التونسيوماجرى للعالم الذي أغتيلت برائته أيضا بالتوازي فقد تحوّل العالم إلى بؤر صراعات فكرية وأيديولوجية، ماتت فيه الإنسانية  وما عاد في الأرض مكان لتجسيد الآمال والحديث عن الحب ومحاورات العشاق، لا ملائكة ترفرف ولا قديسون يصلون لأجل الأخوة. الكل صاروا جمادا بلا مشاعر ولا أحاسيس، فقط هو الموت المسيطر على مشاهد الرواية.

“نعم.. انتهى العالم ! وداعا براءة العالم ! .. عاد تاج إلى مربط هوسه. 

ينتهي العالم! هكذا قال منجمون يعتمدون في حساباتهم على نهاية حقبة في تقويم المايا الذي استمر 5125 عاما. ها ها ها ! قهقه تاج.. هل ينتهي العالم حقّا وأنا أستقبل، هذا الصّباح، أجمل شمس تطلع من هنا، في قريتي المنهمكة في جني الزّيتون؟ لكن، استدرك تاج، لنتّفق أوّلا: كيف يمكن التسليم بنهاية هذا العالم؟ إذا زلزلت الأرض زلزالها؟ ألا يمكن للعالم أن ينتهي بطريقة أخرى؟ تسألني كيف؟ والجواب، بمنأى عن المسلّم به غيبا وعنعنة و.. انبهارا أعمى.. ملخّص الجواب في ما أصبحنا نعيشه بالملموس، مذ سنوات، من موت يوميّ وخواء. موت نعيشه بحواسّنا المخدّرة بالسّمّ البطيء ونقنع أنفسنا، مع ذلك، بأنّه ليس موتا وإنّما هو وجه آخر للحياة. نتعايش مكرهين معه أو قانعين وهو يفعل فعله التّدميريّ فينا، من حيث نعي أو لا نعي. العالم كلّه على طبق ونحن الأكلة النّهمون. وجبات من كلّ نوع في متناول جوعنا التّاريخيّ، الكافر وكلّنا جائع ولا مفرّ من إشباع ما بنا من جوع. نأكل إلى حدّ التّخمة. الجوع؟ لا أعني به خواء الأمعاء فذاك شيء آخر هاهاها! ولا جوع المعرفة ونحن لا نريد أن نعرف شيئا ولكنّه جوع آخر وكفى. جوع يجعل الواحد منّا منتهيا وهو على قيد الحياة. ” 

يذكر أن يوسف رزوقة قد أصدر إلى حدّ الآن قرابة ثلاثين كتابا  في الشعر والرواية وأدب الطفل آخرها رواية “مسمار تشيخوف” صدرت مؤخّرا عن “مومنت ” بلندن. 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى