وليم بوروز عوليس القرن الماضي

الجسرة الثقافية الالكترونية-السفير-

منذ بداية العام الحالي، لم تتوقف الاحتفالات بالذكرى المئوية الأولى لولادة الكاتب الأميركي وليم بوروز، أحد أقطاب جيل «البيت» (الأميركي) الاحتجاجي، الذي يعتبر كثير من النقاد أنه الجيل الذي أنجب كبار كتّاب أميركا في القرن العشرين. جيل عرف، وبالرغم من سلوكه الفضائحي في أحيان كثيرة، كيف يفرض كتاباته وحضوره، حتى على الأجيال الحديثة.

في أي حال، ومن ضمن هذه الاحتفالات، أعادت دار «ألف ليلة وليلة» نشر ترجمتها الفرنسية (سلسلة كتاب الجيب) لآخر يوميات بوروز «العبارات الأخيرة». هنا إطلالة.

من دون شك، يمكن لنا أن نعتبر وليم بوروز «عميد» جيل «البيت» الأميركي، ليس لأنه كان الأكبر سنّاً فقط، وإنما أيضاً، لأنه كان أول من كتب في ما بينهم عن تأثير المخدرات، أو بالأحرى، عن رحلة الفرد في فضاءات ذلك العالم غير المتناهي. حتى انه شكل في أحيان كثيرة، «المرجع الأخلاقي»، لكلّ الأعضاء.

وُلد بوروز العام 1914، وبدأ الكتابة وهو في عُمر الخامسة والثلاثين، في مكسيكو، حيث جاء كتابه «جانكي»، سرداً لهذه السنوات الخمس التي تعلّق فيها بمعجون الأفيون. وسم الكتاب حقبته وعصره: إذ كان أول «نقل حيّ» لفضاء المخدر، المروي من الداخل. في ما بعد، شكل المخدر والمثلية الجنسية قطبي كتابه اللاحق «الوليمة العارية». كتاب قاسٍ، ثوري ومجدد في أسلوبه، لم يجد ناشراً سوى العام 1959 في باريس وباللغة الانكليزية، بفضل ألن غينسبرغ، صديق بوروز الأزلي. في تلك الحقبة أصبح بوروز وغينسبرغ وكيرواك «زعماء هذا الجيل». هذه الحركة الاحتجاجية ضد «نمط الحياة الأميركية» في الخمسينيات كما ضد قيمها المحافظة والوطنية. وللصدف، يشاء القدر أن يكون كتاب «الوليمة العارية»، آخر كتاب تحكم عليه «العدالة الأميركية» العام 1965.

 

يوميات

 

في أواخر حياته، عانى بوروز من داء التهاب المفاصل، ما منعه من طبع نصوصه على الآلة الكاتبة. خطرت على بال المقربين منه فكرة إهدائه بعض الدفاتر البيضاء الأنيقة. وعلى هذه الدفاتر، بدأ في 14 تشرين الثاني من العام 1996 بتسجيل أول مقاطعه التي توقفت في 30 تموز 1997، أي قبل يوم من رحيله. مقاطع، جاءت بمثابة يوميات حميمة. فيها الملاحظات والأفكار والاستشهادات وتعابير الغضب الموشاة بسخرية جارحة.. كل ذلك كان يمتزج في ما بينه ليأخذ القارئ إلى كآبة الكاتب الهاجس بالموت تارة، أو الواقع في التحريض تارة أخرى، إذ كأن بوروز كان يدرك أن ما يكتبه سيشكل آخر مواعيده الأدبية.

هذه اليوميات صدرت، بُعيد رحيله بعنوان «Last words» (الكلمات الأخيرة)، لتشكل عباراته هذه «طريقة خاصة» في التعبير. يحمل أحد نصوصه عنوان «آخر كلمات دوتش شولتس»، ويبدأ على الشكل التالي: «اسمعوا كلماتي الأخيرة، أينما كنتم. اسمعوا كلماتي الأخيرة في أي عالم كنتم». حسناً. لنستمع إذن إلى هذه «الكلمات الأخيرة»، التي تفوّه بها كاتب «الوليمة العارية»، والتي تحمل عنواناً فرعياً «آخر يوميات وليم س. بوروز»، وقد جمعها وقدم لها جيمس غرويلهوز الذي كان بمثابة سكرتير الكاتب الأخير.

تبدأ الملاحظات هذه يوم 14 تشرين الثاني في العام 1996، حين نفق كاليكو، أحد الهررة التي كان يعبدها الكاتب، أما آخرها في 30 تموز 1997، فيستدعي فيها مدمن المخدرات السابق، أحد قططه أيضا، «فليتش»، يستدعي غيابه الذي يتطلب منه البحث عن «أكبر وأقوى مسكن للألم موجود على الأرض»، وذلك للخلاص من هذا «الحب». أي أن الكاتب ينهي حياته بكلمة «الحب».

بيد أن الكاتب، «عادة»، لا يملك آخر الكلمات عن أدبه، ففي تقديمه، يسرّ لنا جيمس غرويلهوز، أن مدمن الهيرويين السابق، عاد ليسقط فيه مجدداً، حين تقدم في العمر، إذ كان عليه أن يتناول «الميتادون» كل صباح «لقد اتصل مجدداً بالمخدرات في نيويورك العام 1980، وقد اتبع نظام الإمداد هذا باقي حياته». لغاية الأشهر التسعة الأخيرة من حياته، «كان بوروز لا يزال يشعر نفسه مضطراً إلى خوض معركة وهمية ضد أعدائه الدائمين» يقول غرويلهوز إن إعلان هذه الحرب «الوهمية» (ضد عملاء الأف. بي. أي ومكافحي المخدرات، ومكافحي الانحراف الجنسي) معناه استعادة كلمة «البارانويا» التي أطلقها منذ زمن طويل أعداء بوروز، في وجهه. بيد أن جيمس غرويلهوز لم يقم بذلك في حياة الكاتب، وإلا لكان وقع في «مؤامرة كونية». على كل، كانت المخدرات، بالنسبة إلى بوروز، «أفضل طريقة لحريته»، كما كانت «مادة أدبه كلّه».

 

محذر الحقيقة

 

لمرات عدة، يذكر بوروز، في هذه الصفحات، جملة للرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون يؤكد فيها أن تيم لير (أبا الـL.S.D كان أخطر رجل في أميركا، وفي كل مرة، يعلن بوروز بكلمات متشابهة تقريبا: «خطر بالنسبة إلى مَن على وجه الدقة»؟، ويضيف: «ما رأيكم بفيروس يدفع الموضوع إلى قول الحقيقة كما يراها/ علينا أن لا نكون عجائز».

تبدو القسوة، وكأنها سبب وجود الكاتب، لأنها، على قوله، تتجاوب مع عدوان تحالف فيه، ضده، مليارات البشر. من هنا، بحثه عن العبارة الأكثر تحريضاً ليهاجم فيها «رجال الإعلانات» ومديري «الزيف الفرويدي» الذين «بسذاجتهم، يصدقون أن يهودياً من فرانكفورت يستطيع أن ينظم فوضاهم».

أضف إلى ذلك، يشير «بشرف ساخر»، بأنه لا ينتمي إلى أي طائفة: «ليس للإنسان الأسمى، الرائي، أي شعب، علينا ترك ذلك للزنوج واليهود والصينيين والقرويين (…) ليس لي أي شعب، ما عدا المعجبين بي وشخصيات رواياتي».

حين اتجه بوروز، «البورجوازي»، نحو الهامش، كان يتمنى أن لا تتم استعادته مطلقا، مهما كان عليه نجاحه «كفنان ملعون». لقد أبقى المعجبين به على مسافة منه، كان يملك تحريضاً مسبقاً. من هنا، لا يتورع عن ذكر الرسائل المتضمنة أكبر كمية من الشتائم (المقززة) التي تلقاها على آلة المجيب الصوتي أو التي سمعها بأذنيه. عند موت تيم ليري، قال البعض «تخلصنا منه». من يقل ذلك فإنه يتحدث عن موته الخاص وبأسرع طريقة ممكنة»، يعلق بوروز قائلا.

 

الكات آب

 

«الكلمات الأخيرة»، ليس بالتأكيد أفضل كتب بوروز، إلا انه أكثرها عاطفة وتأثراً. بيد ان «حسنته»، تكمن في انهماك بوروز باستعمال تقنية «الكات آب»، هذه التقنية التي أبدعها صديقه الرسام والكاتب بريون غيزن والتي تتطلب مزج عدة أشكال من النصوص المختلفة، في بوتقة واحدة (مقالات، قصائد، إعلانات، كولاجات…) ليصار إلى ثنيها وتقطيعها وإلصاقها بعضها ببعض كي تعطي معنى جديداً للكلمات التي تنتظم من جديد في سردية تتشكل بالرغم عنها. في يومياته الأخيرة، يُسجل بوروز، تأملاته، أخبار يومياته الصغيرة، نصوصه، أفكاره الإيروسية، أحلامه التي تظهر فيها خاصة جين بولز (التي توفيت العام 1973) وزوجها بول (الذي رحل بعد بوروز بعدة أشهر).

قد لا يكون من السهل توضيح هذه الفوضى وتفصيلها، لكنّ بوروز يجد في تقنية «الكات آب» هذه، الشكل الكتابي المناسب أكثر له، إذ إن التقطيع والكولاج والثنيات تتناسب بشكل تلقائي ومتكامل مع أفكاره. «أتعلمون، على السيرة الذاتية أن تتألف من ركام مقاطع». لقد أصبح المقطع مسافته، والركام طريقته في الترتيب والحياة ليست سوى «كات آب» حيث أن القطعة الأخيرة بلا جدوى.

لا أحد يصدق ذلك، لكن من هو هذا الأحد»؟ يرغب بوروز في أن يكون عوليس هذا، القبطان الذي يحيا ألف مغامرة، الذي يعيش دائماً في حرب ما، الذي يتمنى أن يساهم بنفسه في أسطورته «لقد كتبت ورقة نعي إذاً، فلماذا لا أساهم فيها». «لقد كان شخصاً كريماً، كل من يسأله كان يحصل على مبتغاه، كان يملك ما يعطيه. كان كل ما يملكه» يقول المقدم في تقديمه ويضيف أن بوروز كان ينام «والمسدس تحت غطائه، بمتناول يده، في حال حصول أي شيء». كان بوروز (الذي قتل بحادث عرضي العام 1951 زوجته وهو يلعب معها لعبة «غيوم تل»، (على قول الشرطة المكسيكية يومها) يملك وحده هذه الطريقة الراديكالية في تصفية مشكلاته الشخصية والأدبية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى