ويلبيك ممثلاً نفسه.. السخرية من كلّ شيء

الجسرة الثقافية الالكترونية-السفير-
*نديم جرجورة
شياء عديدة تُثير الدهشة والمتعة معاً في كل حركة يقوم بها الكاتب الفرنسي ميشال ويلبيك (26 شباط 1956). آخرها: مشاركته كـ«ممثل» في فيلم «اختطاف ميشال ويلبيك» (2014) لغييوم نيكلو. لم يكن ممثلاً، بل هو نفسه. الحكاية تعود إلى أحد أيام أيلول 2011: «اختفاء» الكاتب يؤدّي إلى قلق عام، ظنّاً من كثيرين أنه «اختُطِف» بسبب آرائه السلبية عن الإسلام. لم يُحدِّد ويلبيك السبب. في حوار منشور في المجلة الأسبوعية الفرنسية «لو بوان» (21 آب 2014)، لم يتطرّق إلى المسألة وخفاياها، بل قال ساخراً إنه يُساوي أقلّ من بَنْزيما، لاعب كرة القدم الفرنسي: «لنكن واقعيين. المسألة تجارية بحتة. أنظر إلى المسألة بمنطق قياساً على عدد الذين يُتابعون مباريات بَنْزيما». في الفيلم، هناك 3 شبان يختطفون الكاتب من منزله. غير أن مسائل عديدة مثيرة للدهشة والضحك والتأمّل: طريقة الخطف. نقله إلى منزل ريفي. نشوء علاقة «حميمة» بينه وبين الخاطفين وصاحبيّ المنزل الريفيّ. طلباته هو كمخطوف (نبيذ. سجائر. امرأة شابة لممارسة الجنس معها. كتب)، إلخ. هذه لقطات ومسارات مُضحكة، تمتلك عمقاً إنسانياً، ولعبة فنية بديعة. ولباك محبّ للسينما. لديه فيلمان قصيران كمخرج: «كريستال المعاناة» (1978) و«خلل» (1982). هناك أيضاً فيلم إيروتيكي بعنوان «احتمال جزيرة» (2008) مأخوذ عن رواية له بالعنوان نفسه (2005): «أن تكون مخرجاً، هذا أمر مهمّ. أن تمثّل، هذا أمر رائع. يُعامَل الممثل بشكل أفضل بكثير من المخرج، وتخفّ عليه الضغوط. صحيح أن الممثل ينتظر طويلاً أثناء التصوير للقيام بمهمّته، لكنّي لا أضجر أبداً (بسبب الانتظار). عندما كنتُ صغيراً، كانوا يوقفونني في زاوية ويقولون لي: «ستنتظرنا هنا. لدينا ما نقوم به». بعد 3 ساعات، أكون في مكاني من دون أن أشعر بالضجر ولو ثانية واحدة. لديّ حياة عظيمة في داخلي».
مهما كان موقفه من الضجر والتمثيل والكتابة، يظلّ ميشال ويلبيك مثيراً للمفاجآت. فيلم «اختطافه» أو «اختفائه» (كما ترجمه البعض إلى اللغة العربية) يرتكز على لعبة فنية وإنسانية وفكرية بديعة. النقاشات محتدمة. التفاصيل الدقيقة مهمّة. الرغبات والذكريات والحكايات القديمة حاضرة. اليهود والاقتصاد والجنس والحرب والديموقراطية والتاريخ والهجرة أيضاً. لم يعد الفيلم مجرّد لغة بصرية لتفكيك الذات وهواجسها، بقدر ما انخرط في لعبة انقلاب الأدوار، خصوصاً بين الخاطف وخاطفيه. ميشال ويلبيك متحمّس للفيلم وللعبته. قادرٌ هو على إحكام قبضته على مسار الأحداث، على الرغم من أنه لا يوحي بهذا، لا في بداية عملية الخطف ولا أثناءها. صحيحٌ أنه بارعٌ في حياكة خلاصه الداخليّ، لشدّة ما فيه من نبض حياتي ذاتي كما قال. صحيح أنه ممتلك لحظة انقلابه ومفجّرها في وجوه خاطفيه وصاحبيّ المنزل الريفيّ العجوزين. لكنه هادئ في اشتغاله الروحي والعقلي، ومتواضع في أفعاله. عاشقٌ للسرعة، يقود ميشال ويلبيك سيارة العودة إلى منزله بسرعة فائقة (300 كلم بالساعة): «كتبتُ وصيتي لأن الموت ممكن. هناك جانب في السرعة أشبه بلعبة فيديو، متعلّق بكيفية مرور المَشَاهد أمام عينيك». المخرج غييوم نيكلو يُشبِّهه بالفنان الأميركي كريس بوردن «الذي يعشق الخطر». لكن ويلبيك لا يرى تشابهاً بينهما أبداً. يقول أيضاً إن كثيرين يصفونه بكونه «تحديثاً» لسيرج غينسبور: «أدخّن مثله، لكنّي أحتسي الخمر أقلّ منه بكثير، ولستُ مهووساً جنسياً على غراره». يُضيف: «لديّ شعورٌ بأني مع تقدّم العمر أتحوّل ـ بالنسبة إلى الشباب ـ إلى نوع من ذاكرة زمن كان السلوك فيه أكثر حرية». ألهذا تمّ اختطافه، كما في الفيلم إذاً؟ ألهذا يجد فيه الخاطفون الثلاثة نوعاً من حكاية تاريخ، ومن قصة ذاكرة؟ ألهذا اخترق ميشال ويلبيك الحاضر السينمائيّ بكثافته وثقله، كي يُصبح مع سياق الفيلم أشبه بخزّان مرحلة وانعكاس لها؟
ربما. لكن «اختطاف ميشال ويلبيك» فيلمٌ عن السخرية من كل شيء أيضاً، بلغة تمزج الضحك بالانتقاد العميق والحاد، وتُعلن جمالاً من قلب الحكايات القاسية.