«يارا» ديوان الأحلام المنكسرة وشعرية الفقد والثورة

الجسرة الثقافية الالكترونية
يسري عبد الله
عن الأحلام المتكسرة والثورة المهيضة يكتب الشاعر المصري محمد رياض ديوانه الجديد «يارا» (روافد للنشر)، متخذاً من الإحالة إلى الواقع المعيش بشخوصه ووقائعه آلية ناجعة للوصول إلى متلقيه، بدءاً من الاختيار الدال للعنوان، وما يشي به من انحياز إلى المقولات الكبرى التي لم تزل حاضرة في متن العالم/ متن الكتابة. تحضر بوصفها متناً وهامشاً في آن، مركزاً ومتكأً، وعبرها يبحث الشاعر عن غاياته الكبرى، «لكي يقاوم، وينتصر»- بحسب تعبيره الشعري- فيعيد الاعتبار لجدل السياسي والجمالي، ويؤسس لتصور أكثر حداثة حول علاقة التواشج بين الوظيفتين الاجتماعية والجمالية للشعر، في نص مكثف يقطر بالمرموزات والإيحاءات، ويتشكل من قسمين مركزيين، هما: نشيد الأناشيد/ يارا، يتلوهما هوامش دالة تحوي ثلاث قصائد محمولة على المتن الشعري جميعه، كما تمثل تأويلاً جمالياً لما ورد في القصيدة المركزية «يارا»، بإحالاتها المختلفة، لتتشكل قصائد/ تنويعات ثلاث على متن القصيدة المركزية، تحمل عناوين دالة لصيقة بذلك الآن وهنا ومعبرة عنه أيضاً، هي: «الألتراس/ عربة الترحيلات/ الجنود».
يهدي محمد رياض ديوانه إلى روح الشهيدة المصرية شيماء الصباغ التي قتلت غدراً في الذكرى الرابعة لثورة 25 يناير، وبما يعني أن ثمة إحالة عبر الإهداء إلى ذلك الزمن المرجع للديوان، حيث يحتدم كل شيء في لحظة زمانية فارقة، ثم يهدي قصيدته المركزية إلى يارا سلاَّم ورفاقها، وبما يحيل القارئ العام إلى المناضلة المصرية الشابة التي اعتقلت في حزيران (يونيو) من العام الماضي بتهمة خرق قانون التظاهر، وبما يعني أن ثمة قدماً موضوعة في السياسة وأخرى في الفن داخل الديوان، لا عبر عنوانه وتقسيماته وإحالاته فحسب، ولكن عبر بنيته المهيمنة التي يمتزج فيها الأيديولوجي بالفني ليشكلا معاً – عبر بنية شعرية متجانسة لا تعرف النتوءات- مساراً فريداً في متن الشعرية الجديدة حين تعبر عن راهنها بلا خوف ولا صخب.
يتشكل القسم الأول «نشيد الأناشيد» من تسعة مقاطع شعرية، تتخذ الشكل النثري المحض في الكتابة على فضاء الصفحة الورقية، وتتجادل وتتداخل عبر تلك الذات الشاعرة المأزومة والباحثة عن طوق نجاتها الخاص، في سياق بالغ القسوة، لم يعد فيه للموت شكل واحد، وأضحت فيه الحياة استثناء، والشعر لم يعد قادراً على منح السعادة، وإن ظل قادراً على الفعل والمقاومة، بل حتى على مجابهة الموت وأنسنته: «خذني بقوة العواصف، ورهافة التنهد، بالشغف الذي يعطل الحياة، ويجعل الموت أكثر أنوثة من الحرير، أكثر حرية من الجبال والفضاء» (ص 14).
وتبدو النهايات لافتة في «نشيد الأناشيد»، مصنوعة على مهل، يحركها نفس شعري يريد صوغ العالم على نحو يختصر مساحات اليأس والقبح والعتامة، ويلجأ الشاعر كثيراً إلى استخدام آلية الجملة المدهشة القادرة على النفاذ إلى سيكولوجية المتلقي، والتي يختتم بها مقطعه، على نحو ما نرى في هذه النهايات الدالة بنت السؤال والقدرة على الإدهاش معاً: «أيها الشعر كيف لم تجعلني سعيداً»؟ (ص 11)… «لا أعرف شكلاً واحداً للموت» ( ص 12)، «مساء الخير أيها الموت، مساء الخير أيتها الحرية» (ص 17)، وهكذا.
يؤسس الشاعر عالماً تخييلياً يكسر فيه أفق التوقع لدى المتلقي، يكمن جماله في جسارته ورهافته، وطلته البكر على العالم، في تشابكاته وعلائقه المختلفة على مستوى الرؤية الكلية للنص من جهة، وعلى مستوى الجمل الشعرية بتشابكاتها اللغوية والدلالية وشحناتها الانفعالية والشعورية من جهة ثانية: «أعرف أن حياتين لا تكفيان لكي أعيش، وأن مدينتي لن تفك قيودها قبل وقت طويل، وأن أحلامي أثقل من الفضاء، لكن عيني تجازفان بالنظر إلى عينيك البعيدتين، فأرى طفولتي بكاملها، وأرى قصوراً باذخة، أرى أسرّة في الهواء، ونهارات تليق بشاعر طائش، وأزهاراً تساق سعيدة إلى مذابح الشهوة» (ص 15)، ونبدو هنا أمام عالم فجائعي، يحوي ملامح كافكاوية، ويمتزج فيه العبثي بالمأسوي، كما يتماس الشاعر مع كفافيس في قصيدته «إيثاكا»، وهذا ما يمكن تلمسه بوضوح في المقطع التاسع، مثلما يتماس معه في قصيدته المركزية «يارا»، حين يحيل إلى النص الشهير «في انتظار البرابرة»؛ «طبيعي أن نموت على الحوائط/ وأن نصبح أيقونة مألوفة للعابرين/ ومثل جميع البرابرة ندفع فاتورة التحضر/ دمنا وحريتنا» (ص 47).
تتواتر الصيغ الإنشائية في «يارا»، لتفيد مزيداً من الحث والتحفيز والتشجيع للمتلقي، غير أنها بتنويعاتها المختلفة من طلب واستفهام ونداء تغادر في النص مقاعد البلاغة الكلاسيكية العتيقة لتتماس مع ذلك الآن وهنا، حيث يقف المتلقي على حافة الفعل/ حافة المساءلة لواقعه: «اطردينا من الساحات/ أعيدينا للأزقة والحقول/ ملطخين بفحم التاريخ ودخان المعارك/ الزنزانة أوسع من حيواتنا/ وأنتِ لا تنتمين سوى للهواء/ أيتها الزهرة المتقدة/ دعينا نرتب أوراق الشقاء والتشرد والنضال والكآبة» (ص 23، 24).
يحضر المجاز بقوة في القسم الثاني من الديوان، ويتصل حضوره بمحاولة تخليق صورة شعرية تستعين بتلك المشهدية البصرية الضافية التي يمكن لنا تلمسها في مواضع عدة من الديوان: «أشباه وحوش مموهة نحن/ نتاجر بأوجاعنا الباردة القديمة/ ويكنس التاريخ العجوز عظامنا المبعثرة/ على أرصفة التثاؤب» (ص 24).
تحضر ثنائية الذات الشاعرة ويارا بوصفهما مجليين لعالم يأبى على الانكسار، على رغم كل المآلات القاسية والوحدة والألم، وعبر توتر شعري دال: «أنا المحرض/ حتى على جسدي/ أنا واحد، وأنتِ الفراشات كلها/ وحيد/ وأنتِ العالم» (ص 37).
تلح على القسم الثاني أيضا تيمة التساؤل التي تستحيل في مقاطع مختلفة إلى حال من المساءلة لراهن متعثر وموحش وقاس، ويبدو التساؤل حاوياً بُعدين أساسيين أحدهما وجودي، والآخر رومانتيكي، وهذا ما يمكن تلمسه في المقطعين الواردين في الصفحتين 40 و41.
تتواتر مفردة «أحبكِ» ويبني عليها الشاعر مقاطعه بدءا من الصفحة 48 وحتى مختتم القصيدة، وبما يعني أن المزاوجة بين الثوري والرومانتيكي – وهي ثنائية شهيرة في أدبيات الكتابة- حاضرة وبقوة في الديوان.
المصدر: الحياة