يحيى جابر يواجه “النصرة” و”داعش” .. والجمهور

الجسرة الثقافية الالكترونية

*منير الخطيب

 

قبل نزولك درجات «مترو المدينة» تسأل ما الذي سيقدمه يحيى جابر في عمله الجديد، ولم يقدمه في مسرحية «بيروت طريق الجديدة». وتستغرب أن يلجأ يحيى لعنوان ديوان قديم ليضعه على عرضه الجديد «خذ الكتاب بقوة». وتستغرب أكثر عندما تحاول استعادة تذكر نصوص الديوان، وتسأل كيف سيمسرحه. ما علينا يحيى يخوض مغامرة جديدة على الخشبة، فالأمر يستحق المشاهدة اذا. المسرح ممتلئ بأكثر ممّا يتسع. علامات الحشرية والترقب بادية أكثر من ظواهر الاسترخاء على الحضور. الجميع على ما يبدو متلهفا، لا للعرض، بل لمحاكمة يحيى، على أدائه وإخراجه وكتابته. علما أن العرض من أوله الى آخره محاكمة تفصيلية لجيل أو جيلين عاشا أوهاماً، وبضعة انتصارات، وانكسارات كثيرة.

بداية العرض، أداء مستقل للموهوب طارق بشاشة، عزف ايقاعي على ما تيسر من أوان مطبخية وزجاجات فارغة، أخذ بعزفه الجمهور من الشارع ومن كراسي المترو المتلاصقة الى مكان رحب، سهل ممتنع، يفتح العينين عن طريق الاذنين.

تصعيد موسيقي ينتهي، لا بل يتواصل بظهور يحيى على الخشبة. كان من الصعب على يحيى أن يستعيد الجمهور من طارق، شاغب عليه قليلا، تلاعب والزجاجات، دخل جو العرض من باب إيقاعات بشاشة.

مقدمة شخصية تفتح الشهية على ما آت بعدها. بانوراما إخبارية تبدأ بانهيار الاتحاد السوفياتي وتنتهي على حدود درعا. لا يكشف الشاعر عن هواه. من كثرة ما تنقل وبدل جرب ألوان الطيف كلها تقريبا. وفي كل مرة كان صادقا مئة في المئة. من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين. قاتل بشراسة كما أحب بشراهة. كشف يحيى ذاته على الملأ بعري كامل كما خلقه ربه. ببوحه المباشر، المنثور والشعري بلغ حدا من الصدق كسر معه قاعدة «أعذب الشعر أكذبه»، صار في «المترو» أعذبه أصدقه.

لا تستطيع أن تأخذ موقفا من فن يحيى ولو هو اتخذ أقصى المواقف. نجح حيث يفشل الجميع، جعل الاختلاف السياسي متعة للتداول، حول محمد رعد وعقاب صقر وردتين جوريتين. وتناول جيلا من الشعراء المقاتلين كحمامات سلام. ظل يتلاعب بالجمهور ويأخذه إلى حيث لا يتوقع، الجميع يريده في خندقه وهو يطير فوق الكل.

إيقاع العرض لم يكن وتيرة واحدة. شهد بعض التقلبات لكنه ظل ممسكا بالجمهور. كلمات يحيى البسيطة الذاتية قادرة على السيطرة على ذائقة الحضور، خصوصا وإن الشاعر ألقى شعره بجسده. إلى إيقاعات طارق بشاشة كان يحيى يتراقص بجسده حيث تقصر العبارات، بيديه وقدميه وخصره، وفي ضحكته الصاخبة المجلجلة الراعدة، و»كرشه المنطاد». ربما هنا كانت المفاجأة، الأداء الجسدي، بلغ حدا تعبيريا عاليا، وكأن الممثل الكهل عاد إلى شبابه، خصوصا عند استعادته شعارات الحيطان من ديوان «خذ الكتاب بقوة».

ظل الشاعر فيلسوفا قويا طاغيا حاكما بامره، من عقد إلى آخر، إلى أن سقط في أحضان المرأة. الأم الحبيبة الزوجة. هنا يصبح يحيى طفلا كامل الأوصاف ولو كان رجلا كهلا. مجون هادئ. بنوة مطلقة التعلق بالأم. عندما عبر الشاعر بجثمان والدته حواجز العدو إلى بلدته الجنوبية بعد مماطلة ومنع، أزهرت الشمس.

ومع الحبيبة تنقل الشاعر، وهذه من مآسي الشعراء، بين نساء تلذذن بتعذيبه كما تلذذ هو بأن يعذبنه، ظل يحب ويفشل مفجرا أحقادا شعرية على حدتها بدت مطهرا عاطفيا رقيقا.

أداء يحيى في عرضه فريد، لا من الناحية الفنية أو الفحولة الشعرية بل لظروف زمان الشاعر وموطنه. النص نتاج تجربة يسارية في محيط متعدد متنوع، منفتح على الشرق والغرب، عابد للتوتاليتارية مرة، كافر بالاستبداد مرة اخرى، منشد للحرية، خارج من الأممية إلى الاكتفاء بسيادة الوطن الصغير، المتمرد المتنمر الصاخب المقبل على الشهوات، المتنسك لحبيبة طاغية الصغير كما الشاعر المسرحي.

أين نستطيع تكرار تجربة مماثلة في زمن «نصرة» الجولاني و«داعش» البغدادي. يحيى جابر في «خذ الكتاب بقوة» آخر زمن جميل. محظوظين لرؤيته ممسرحا. الجمهور على حق في فضوله وترقبه.

المصدر: السفير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى