يسري عبدالله: مجابهة خطاب التطرف تتطلب تفكيكه وفهم أطره وتجلياته

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

محمد الحمامصي

 

أكد الناقد د. يسري عبدالله في مشاركته في مؤتمر “صناعة التطرف قراءة في تدابير المواجهة الفكرية” الذي نظمته أخيرا مكتبة الإسكندرية أن ثمة حاجة ملحة إلى تفكيك مصطلح التطرف إلى بنياته الأساسية، وصولا إلى جوهره المضطرب، بغية الوصول إلى آليات ناجعة لمجابهته، ومواجهة تغوله في ظل سياق سياسي/ ثقافي لم يتخلص بعد من أسر الصيغ الرجراجة، التي لم تزل ترى في الجمع ما بين المتناقضات حلا وسطا، وفي المؤالفة ما بين المتنافرات توفيقا وتأليفا، لنصبح في نهاية المطاف أمام تصورات تلفيقية للعالم ترتكب تحت مظلتها الكثير من الكوارث، وتفضي بالتبعية إلى المزيد من الأخطاء.

 

وقال إن التطرف يبدو تعبيرا عن تصور يقيني للعالم، يعتقد أصحابه في فهمهم لمنطق الأمور وطبائع الأشياء أكثر من غيرهم، ويرون أنفسهم يملكون عين الحقيقة، وجوهرها، ومن ثم فالعالم لديهم يدور ما بين فكرتي الحق والباطل، التي تأخذ بعدا عقائديا لديهم، يزداد رسوخا جراء انطلاقهم من رؤى محددة سلفا، قطعية الدلالة في عرفهم، سابقة التجهيز في نهاية المطاف.

 

ورأى أن التطرف يتمحور حول الفكرة الدينية، ويتخذ منها غطاء فكريا وأيديولوجيا، ويستدعي خطاب التطرف المقدس دائما، ويضعه في مواجهة الدنيوي، ويسعى صوب خلق وعي زائف للجماهير عبر محاولات الترهيب والترغيب التي لا تتوقف، والوعود التي لا تنتهي، بدءا من الرخاء الأرضي على غرار الجملة الشهيرة للجماعة الإرهابية نحمل الخير لمصر، التي تحولت إلى جملة عبثية على أيديهم، ووصولا إلى مفاتيح الجنة السماوية وصكوكها التي تمنح وتمنع ليل نهار في الفضائيات الدينية.

 

وأكد عبدالله أن خطاب التطرف يسعى إلى وضع البشر في خانة الأتباع، وقال: “أصحاب الخطاب هم وحدهم السادة، وعلى التابع أن يتبع شيخه أينما كان، والتابع مستباح دائما، فهو إما كافر أو عاص في أحسن الأحوال، وفي كلا الحالين يظل غنيمة متجددة لسيده المؤمن، فالتنظيم الإرهابي داعش على سبيل المثال يتفنن في سبي النساء واغتصابهن، ويجد من الذرائع والتبريرات ما يفتي به ويعلنه في تبجح شديد يليق بخليط مدهش من المرتزقة وتجار الدين وصنائع الاستخبارات العالمية.

 

غير أن الفكرة الرئيسية تظل كامنة في استدعاء النص الديني وقت الحاجة لتبرير كل الجرائم الإنسانية التي ترتكبها التنظيمات الدينية المتطرفة، التي تعتقد أيضا بأن كل ما عداها مغنم لا بد من قنصه، وفريسة لا بد من اصطيادها”.

 

ولفت إلى أن خطاب التطرف يتسم بأنه يقيني إذن، يكره السؤال، ويمقت الشك، ويتعامل أصحابه مع غيرهم من منطق استعلائي محض، هو ابن المسلمات بامتياز، وابن التصورات الماضوية للعالم والأشياء، يخاصم اللحظة ويعاديها، ويعتبر الراهن أقل شأنا، وأن أفضل العصور ما كان، وليس ما هو كائن، ولا ما سيكون.

 

وأضاف عبدالله “يخاصم التطرف العقل، ويعاديه، ويسعى للهيمنة عليه، وإقصائه دوما من الحيز الحياتي للبشر، ولأن الخطاب العقلي شاك ومتسائل بطبيعته فهو يقف على طرف نقيض من خطابات التطرف الغوغائية التي لا تكتفي باستبعاد العقل بل لا تتورع عن إهانته صباح مساء، وكأن هذا التاج الإنساني الذي منحه الله للناس ليفكروا به، ليس أكثر من آلة للركون والاستسلام لواقع الاستبداد والتطرف الديني”.

 

ورأى لتفكيك التطرف أيضا ضرورة من مراجعة الموروث بكافة تنويعاته، هذه المراجعة التي يجب أن يتجاوز العقل النقدي المصري والعربي من خلالها حيز المس من الخارج والارتماء في أحضان مقولات بالية لم تنتج شيئا ذا بال في واقع الحال، من قبيل تجديد التراث، إلى حتمية قراءة التراث قراءة عقلانية، مستنيرة، جديدة ومختلفة، يوضع فيها موضع المساءلة والمراجعة النقدية، التي لا تتخلى عن موضوعيتها وانحيازها إلى جوهر اللحظة بتجلياتها المختلفة.

 

وأوضح عبدالله أن خطاب التطرف يمتلك تفسيرا أحاديا للعالم، يرى الناس من خلاله إما أخيارا وإما أشرارا، وتختفي لديه المنطقة الرمادية تماما، على الرغم من أنها المنطقة الإنسانية المحضة، فالناس في جوهرهم ليسوا ملائكة ولا شياطين، ومجاوزة هذه التصنيفات البالية أضحى ضرورة منهجية وإنسانية لخلق بنية فكرية أكثر إنصافا ورحابة.

 

وقال: “يبدو خطاب التطرف فجا، لا يعترف بقيم الدولة المدنية ولا بتجليات الدولة القومية الحديثة في العالم، فالمخالفون في العقيدة في عرف المتطرفين حقوقهم منقوصة، هم مواطنون من الدرجة الثانية، لا تجوز تهنئتهم في الأعياد والمناسبات، وبذلك يضرب المتطرفون فكرة المواطنة في مقتل، ويخلقون مناخات متجددة من الكراهية، التي تعد السمة المركزية في خطابات التطرف جميعها، حيث تغيب قيم التسامح وتحل محلها أجواء التعصب الذي يستحيل إلى عنف، يمثل الطور الأخير من أطوار البناء العقائدي لفكرة التطرف، وما تمثله من خطابات يمينية متهافتة، موصولة في جانب مهم منها بالخطابات الاستهلاكية التي ملأت العالم، وبالتصورات الرأسمالية المتوحشة المهيمنة على مقدراته، وربما هذا ما يكشف عن العلاقة الجدلية القائمة دوما ما بين الاستعمار الجديد والرجعية، حيث تدعم بعض القوى الكبرى الكيانات الرجعية في العالم الثالث من أجل تمرير مصالحها وخططها في الهيمنة والتقسيم وفقا لأطماعها التوسعية”.

 

وخلص عبدالله أنه كي نجابه خطاب التطرف بحق لا بد من تفكيكه أولا، وفهم أطره وتجلياته، ثم البدء في مجاوزة كافة الصيغ التلفيقية التي تبلورت على نحو واضح بدءا من حقبة السبعينيات من القرن الماضي، وبما يعني أيضا حسم خيار الانحياز إلى دولة مدنية خالصة، لا تعرف المزاوجة ما بين السياسي والديني، كما أنه لا بد من التكريس لمشروع وطني خلاق قادر على بلورة خطاب سياسي/ ثقافي جديد، يقاوم الفكرة المتطرفة من جذورها، ويحمل انحيازاته الاجتماعية الواضحة صوب المنسحقين والمهمشين، والطبقات المقموعة، ويراهن على توسيع هوامش الحرية المتاحة، ويعيد تجديد العقل العام وصوغه عبر خيال منسجم مع اللحظة ومعبر عنها في الآن، فضلا عن رفد الوجدان الجمعي بقيم وعناصر جمالية وإبداعية، تجابه القبح الذي يعشش في العقول والذائقة. وبما يعني أيضا حتمية التأسيس لسياق تنويري حقيقي ينهض على جناحي الثقافة والتعليم، اللذين يجب أن يصبحا جزءا من مشروع الدولة الوطنية وفي متن أولوياتها.

 

أما حالة الكسل العقلي التي تنتاب مؤسساتنا الثقافية والتعليمية، والارتياد الدائم للطرق الآمنة في التفكير والتصورات، سيبقينا محلك سر، حيث يعتقد كثير من المسئولين الرسميين أن كل شيء عظيم طالما أن كل شيء ساكن، وهذا للأسف عين المأساة ونهايتها في آن.

المصدر: ميدل ايست اونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى