يوسف أبو لوز يعود شعرياً إلى بيت الطفولة

الجسرة الثقافية الالكترونية
*محمد الغزي
المصدر: الحياة
لم يطمئن يوسف أبو لوز في كل مجموعاته الشعرية لقصيدة واحدة يحاذيها ويحاكيها، بل كان دائم القلق والتسآل يبحث عن لغة مختلفة تقول تجربته وتفصح عن غائر مشاعره… هذا القلق وذلك التسآل هما اللذان جعلا قصيدة أبو لوز متحوّلة ومتغيرة، تسعى باستمرار إلى البحث عن ذرى شعريّة وجماليّة جديدة. فقصيدة هذا الشاعر لا تتجلّى على هيئة واحدة مرّتين. كلّ تجلّ يذهب بقصيدة قديمة ويأتي بقصيدة جديدة .ولهذا تُعدّ كلّ مجموعة شعريّة بمثابةِ خُطوة جديدة في طريق القصيدة التي يحلُمُ بكتابتها. ومجموعته الجديدة «زوجة الملح « الصادرة عن مجلة «دبي الثقافية» ليست إلاّ صورة لهذا التطوّر ولهذا التوق إلى كتابة قصيدة مختلفة. فأبو لوز ظلّ يطوّر قصيدته باستمرار، يعيد النظر فيها، يشحنها بأسئلة جديدة ولا غرابة في ذلك بما أنّ القصيدة رديفة الحياة، ومثل الحياة تفزع القصيدة من التكرار. التكرار يقتل اللغة، يبدّد قدرتها المبدعة، يحوّل القصيدة إلى كومة من الرماد.
قصائد هذه المجموعة ظلّت، على اختلافها وتعدّد أساليبها، يشدُّها خيطٌ ناظم وهو الإحساس الفادح بالجور يحوّل الحياة إلى عبء ثقيل: «كوكبي الأرض أمي على وشك الانقراض/ الطغاة به يكثرون/ الحجارة تكثر والأسلحة/ البكاء كثير والحروب كثيرة/ وأنا شاعر مفرد وقليل قليل/أحاول بالكلمات حماية أمي من الانقراض./
الشاعر أبو لوز إنسان شديد الانهماك في الحياة والشعرُ عنده ليس تعبيراً عن حقائق النفس فحسب، بل هو تعبير عن حقائق الواقع وقد امتزجت بحقائق النفس. إنّ الإحساس بالخلل ينتاب كلَّ شيء، إيقاع متواتر في مجاميع الشاعر. فالكتابة طريقة نقد للحياة، محاولة لتقويم ما اختلّ من أمرها. وفي هذا السياق تبرز الطفولة بصفتها الدرع التي يحتمي بها أبو لوز من القبح والكراهية وسوء الطويّة. بصفتها الحضنَ الذي كان يفرّ إليه هرباً من الزمن يلتهم كلّ شيء، بصفتها مصدر الشعر الذي كان يمتح منه أجمل قصائده: «أمس/علقت جدتي حلقاً كالثريا بشحمة أذني/ وكانت تبوس جبيني كثيراً / لماذا جبيني ترى؟/ ولماذا الوحيد أنا بين إخوتي».
هذا الحنين إلى الطفولة، إلى زمن تفلّت من بين الأصابع، سمةٌ من سمات شعر أبو لوز. فالمتأمل في ديوان «زوجة الملح « يلحظ أنّ الطفولة تحوّلت إلى إيقاع متواتر في معظم قصائده: «ألفت شعراً في مراهقتي/ وشطبه المعلم غاضباً في حصة الإنشاء/ وكبرت عاماً بعد ذلك/ واتكأت على ذراعي/ واتكأت على الهواء».
لكن الأهم في هذه القصيدة التي يكتبها يوسف أبو لوز، خروجها على ما استقرّ من أعراف لغويّة وتقاليد شعريّة مؤسسة بذلك» أسلوبها «المخصوص ونبرتها المتفرّدة. وتمكنت هذه القصيدة من توسيع معنى الشعر بحيث أصبح يحتضن نصوصاً لا تخضع لشروط الشعريّة القديمة (الوزن، القافية، النظام البياني التقليديّ) وإنّما تستمدّ شعريّتها وشرعيّتها من إيقاعها المخصوص، من قوّة صورها، من حضورها الإبداعيّ… بعبارة واحدة، من جدّة تجربتها الجماليّة والروحية. وقصيدة أبو لوز أنموذج للقصيدة العربيّة الحديثة التي تتوافر فيها كلّ هذه الخصائص. فالكتابة، عنده هي الخروجُ المستمر من الربوع الآهلة إلى الربوع الخالية ويتجلّى هذا الخروج أقوى ما يتجلّى في قصائده التي تنتمي إلى قصيدة النثر حيث ينزاح الشاعر عن كلّ نُظم النصّ الإيقاعيّة والنحويّة والدلاليّة المألوفة ليؤسّس طرائق، في إجراء القول، جديدة. وهذا العدول ليس عملاً خالياً من المعنى وإنّما هو المخرج الذي لا ينال بغيره أو إذا استخدمنا عبارات علماء الأسلوبيّة قلنا إنّه وسيلة إدراك ما لا يستطاع التعبير عنه بغيره.
كلّ هذه الانتهاكات إنّما هي استدراج للغة حتّى تتحوّل من مؤسّسة جماعيّة خارجة عن إرادة الشاعرة توجّهها وتتحكّم فيها إلى أداة تحرّر وانعتاق، عن طريقها تقول تجربتها وتفصح عن رؤاها. فاللغة في الشعر الحديث، كما يقول جمال الدين بن شيخ، هي مجلى الشاعر وليست محبسه، فهو يتجلّى فيها ولا يكتفي بارتدائها، إنّه يؤسّسها. فاللغة تولد مع كلّ شاعر ولادة جديدة.
إنّ الشاعر ما فتئ يسير على الحد الفاصل بين الشعر وبقيّة الأجناس والفنون الأخرى يتشرّبها ويغتذي منها ونذكر منها على وجه الخصوص الخطاب السردي الذي وشم ذاكرة قصائده بنار حرائقه. فكثيرة هي النصوص التي استلهمت خصائص هذا الخطاب واستدعت قوانينه جامعة بين كينونة الشعر وصيرورة القص في وحدة لا تنفصم عراها: «بناؤون ثلاثة / الأول كهل/ الثاني رجل كالسهل/ والثالث شاب/كانوا في حانة لشبونة يبنون مدينة/ الكهل بنى المعبد/ والرجل السهل بنى المتجر/ والشاب بنى الملعب/ في حانة لشبونة بناؤون ثلاثة/ مات الكهل على المقعد/ نام الرجل السهل على خشب المشرب مخفوراً بالليل/ ومازال الشاب على ملعبه يلعب». إنّ قصائد أبو لوز تقوم على جملة من الأضداد والمتباينات: الحياة والموت، الطفولة والشيخوخة، الإقامة والرحيل محيلة بذلك إلى الجدل الذي يقوم عليه الوجود، على حركة الحياة التي هي نسيج أضداد، على التغيّر الذي هو قانون الطبيعة والأشياء. والتغيّر معناه المغايرة، والمغايرة كما يقول عبدالرحمن بدويّ، أن يصير الشيء غير ذاته، وهذه الغيريّة معناها وجود التضادّ في طبيعة الوجود. أمّا المنطق الأرسطي القائم على مبدأ عدم التناقض فلم يقنع الشاعر وهو المنتبه دائماً إلى ضروب المقابلات التي تمتلئ بها الحياة. والواقع أنّ كلّ أعمال أبو لوز الشعريّة تصوّر حركة الروح تتأبّى على سلاسلها، وتسعى، عن طريق الكتابة، إلى استبدال زمن بآخر، ومنظومة قيميّة بمنظومة أخرى، فقدر الإنسان، في شعر أبو لوز، أن يرقص داخل أغلاله، ويرفع، في قاع الهاوية، عقيرته بالغناء.