يوسف ضمرة في لعبة كسر الإيهام

الجسرة الثقافية الالكترونية

*محمود الريماوي

المصدر: الحياة

في مجموعته القصصية الجديدة «مراوغون قساة»، يباشر القاص يوسف ضمرة تقنية باتت أثيرة في التجريب السردي، وهي كسر لعبة الإيهام القصصي، وبناء عالمين افتراضيين متوازيين، أولهما العالم الافتراضي المألوف في النسج التخييلي للقصص، والثاني ينبري لـ «كشف» لعبة العالم الأول ونعتها بأنها مجرد كتابة، بينما العالم الثاني افتراضي كسابقه، والفرق الوحيد أنه يتم التراسل مباشرة مع القارئ في المستوى الثاني. وتستند هذه التقنية في الأساس إلى مبدأ أرساه المسرحي الألماني برتولت بريشت، وهو المبدأ المعروف بهدم الجدار الرابع.

هذه الثيمة هي الغالبة لجهة البناء على قصص الكتاب أو أقاصيصه التسع والخمسين، على رغم أن ضمرة لم يُعرف ككاتب لهذا اللون التعبيري من قبل، إلا ببضع أقاصيص في مجموعته السابقة «طريق الحرير». ولا شك أن الكاتب في معظم نماذجه هذه ينجح في إمتاع القارئ حين يخرج الراوي، ويكسر التتابع الإيهامي ليحل السارد محله، أو حين تعقّب بطلة على دورها في القصة وتنكره، وترفض اعتبار الأمر مجرد قصة متخيلة. وليس أدلّ على هذا المنحى سوى القصة المعنونة «صاحب القصة».

فبعد سرد تخييلي معهود حول لقاء بين رجلين أحدهما يتذكر الآخر جيداً، والثاني تعجز ذاكرته عن استذكار هذا الشخص الذي يقتحم عالم البطل ويسأله عمن أحب وعمن تزوج، يرتبك البطل إذ كان قد أحبّ كما يعترف، كثيرات في حياته وخطّط معهن لمشاريع زواج، بمن فيهن زوجته، حتى يتبين من سؤال الشخص أنه يقصد واحدة بعينها نشأت بينها وبين البطل علاقة، ويودّ الشخص استئذان البطل في الزواج منها. يسأله البطل: ممن؟ فيجيبه الشخص: استغرب كيف تتزوج من امرأة وهي ليست معك. وكان في ظن هذا الشخص أن البطل لم يحب سوى امرأة واحدة هي التي تعرّف إليها هذا الشخص، وينوي الارتباط بها. ينتهي السرد التخييلي هنا. ويتم الانتقال مباشرة إلى المستوى الثاني الذي يتولد عن الأول ويفترق عنه، فيكتمل النص القصصي هكذا: «كنت أكتب في المقهى ولم أنتبه إلى امرأة تتلصص على أوراقي من الخلف. قالت بحدّة مباغتة: قل له إنك حُرّ في أن تفعل ما تشاء. قلتُ ماذا تعنين أنت؟ قالت باستنكار حاد: ألست أنت صاحب القصة؟». الواقع يراقب الإيهام ويتدخل. وفي تدخله يخلط أيضاً بين الواقع والتخيل، إذ يعود ضمير المتكلم السارد في عيني المرأة الفضولية إلى الكاتب، الذي تصفه بأنه صاحب القصة.

على هذا النحو تجري قصص عدة في الكتاب، تتخلّق أمام عيني القارئ منها: سحابة بيضاء ممزقة، سواد، ما لم يحدث، سؤال وحيد، طعنة مُحكمة، كل شيء يأتي متأخراً، وقائع موت غامض، ندبة، صواعق، أغنية الكاتب… وفي القصة الأخيرة تمّحي الحدود حتى بين السارد والكاتب الذي يشير إلى مجموعة قصصية سابقة له، وكأننا أمام مسرح متعدد الأبعاد.

يستشعر القارئ متعة فنية أكيدة تعززها لغة الكاتب الدقيقة، ووصفه الموجز والمكثف للأماكن والأشخاص وللتحولات النفسية، وسيطرته على نصه باستحضار الأبطال ووضعهم في مكان معين وزمان محدد، دافعاً بهم بأقل الكلمات إلى نقطة توتر، أو تصويرهم وقد وقعوا أسرى مفارقة صغيرة.

يرفد ضمرة ما تقدم ببناء مجموعته على هيئة كتاب سردي حكائي، ذي وحدة متجانسة تقوم على مضمون واحد وإن كان متشعباً، وهو الانكسار الذي يسم مصير العلاقات بين البشر، سواء وقع الانكسار لأسباب مفهومة، أم لدواعٍ عابرة لا يمكن التحكم بها، أو أخرى غامضة حد الاستغلاق. وتبرز العلاقة العاطفية بين الرجل والمرأة في الكتاب، باعتبارها من أشد العلاقات البشرية عمقاً ورهافة، لكنها في الوقت ذاته من أكثرها هشاشة. ثمة مرثاة مفعمة بشجن خافت تتغلغل في ثنايا الكتاب، على علاقات تقضت، وعلى ذكريات لا تني تحضر. مرثاة لا تنطق باللوعة والتفجع وتنأى عن الأداء الميلودرامي وشاعرية الحزن، وتنبض بدلاً من ذلك بمرارة الفقد الصلد الذي يجري التعبير عنه بلغة صلبة «موضوعية»، لا محل فيها لإثارة عاطفية منفعلة وسيالة.

ولأن مضمون القصص ومواضيعها على درجة من التجانس، فإن القارئ يقع على قدر من التكرار هنا وهناك، يجد تفسيره في نهوض -واستواء- عالم شبه روائي، أو ذي مادة روائية يُخيّم على القصص ويجمع ما بينها. وفي هذا العالم يختفي أبطال، ولا يلبثون أن يعودوا حاملين حكاياتهم ذاتها إنما من مدخل مختلف وفي مشهدية جديدة. ومن أوضح الأمثلة على ذلك تعدد القصص التي تتخذ من واقعة بعينها خلفية لها، أو منطلقاً لها، وهذه الواقعة هي: انقطاع العلاقة بين رجل وامرأة منذ عشرين عاماً لأسباب لا يعلمها البطل على وجه التعيين، كما في قصص: نشيج، الأصفر، سؤال وحيد، شارة نصر وقصص أخريات.

وكما في الحياة الدنيا حين تكون مواطن القوة لدى البشر في بعض الأحيان، هي نفسها نقاط ضعفهم (الجمال أو الظُرف أو البراعة…)، كذلك في الإبداع وفي بعض قصص «مراوغون قساة»، فكلما تقدّم القارئ في القراءة ومع المتعة التي يصيبها، فإن خيوط اللعبة القصصية المُنمذجة تأخذ مع التكرار في الانكشاف شيئاً فشيئاً، ويدخل القارئ في الرهان على مسار القصة ومآل الأبطال، وعلى توقع تدخّل الراوي ثم السارد، ثم تدخّل السارد الكاتب. ويصيب رهان القارئ وتوقعاته في أحيان، مما يدل على محاذير الإقامة على تقنية فنية بعينها، فيما الارتباك بين الافتراض والواقع لا يُربك القارئ فحسب، بل يربك أحياناً الكاتب الذي تنتقل إليه العدوى وتضطرب معه خواتيم بعض قصصه كما في: كل شيء يأتي متأخراً، لقاء غامض، الرقصة الأخيرة القطار والرجل العجوز، من كتب القصة. في القصة الأخيرة يفترق البطلان بعد أن عبر أحدهما الشارع قبل الآخر وضاعا بعضهما عن بعض طوال هذه الفترة، وكان الرجل في اللقاء الأخير قد وضع في حقيبة صديقته أو حبيبته «قصاصة ورق كملاحظة لقصة قد تولد ذات يوم. إذ أنني قرأت قصة شبيهة بعد عشرين سنة. ياااااه… من كتب القصة يا الهي؟». وهي خاتمة غريبة، فمن كتب القصة هو مؤلفها، والمؤلف عادةً يبرز اسمه إلى جانب قصته، فما معنى التساؤل عمن كتبها؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى