يوميات العدوان على غزة بعينٍ أنثويّة

الجسرة الثقافية الالكترونية

*عمر شبانة

المصدر: الحياة

 

قليلة جداً، في الأدب العربي، هي نصوص «أدب الحرب»، النصوص التي تعيد إنتاج الحرب في صورة يوميّات وتفاصيل يعيشها البشر في ظلال المعارك والموت. التفاصيل التي يعيشها الناس، الأمهات وأطفالهن. كيف يكون وقع الموت المنتظر في كل لحظة؟ وكيف يمكن هذه الكتابات أن تمزج الألم بالأمل، والخاص بالعام، والحوادث بالذكريات، خصوصاً أننا حيال نصوص «ساخنة»، لكونها تُكتب أثناء المعارك وتحت قصف الصواريخ والطائرات؟

هذا ما تقدّمه الكاتبة الفلسطينية (الغزّية) سما حسن، في نصوص دوّنتها أثناء الحرب الأخيرة على غزّة (تموز/ يوليو 2014)، والتي استمرّت واحداً وخمسين يوماً. تكتب سما نصوصها في صورة يوميّات، بل هي تكتب في اليوم الواحد نصوصاً عدّة، تضمنها كتابها الذي حمل عنوان «ضحك ولعب دموع وحرب: يوميات العدوان على غزة» (الدار العربية للعلوم – ناشرون 2015). يقع الكتاب في مائتين وأربع وستين صفحة، وكتب لها التقديم الشاعر إبراهيم نصر الله.

يكتب نصر الله في تعريف اشتغالات سما حسن: «ليس هذا الكتاب محاولة لتعريف الموت الذي عاشته غزة واحداً وخمسين يوماً صيف 2014، على الرغم من أننا نشمّ في كل صفحة فيه ونرى ونسمع خطوات هذا الموت. هذا الكتاب مساهمة حارّة ورائعة لتعريف معنى الحياة». ويوضح معرّفاً بطبيعة هذا العمل: «تكتب سما حسن سيرتها وسيرة أولادها الأربعة في ذلك الحيّز الضيق: غزة ، الذي ظلّ يضيق على أهله حتى غدا غرفة صغيرة مشرعة على القذائف والصواريخ وأحدث أشكال تكنولوجيا الغطرسة البرية والبحرية والجوية. غرفة بنوافذ مهشّمة لا تستطيع رد هواء الموت المشبَع بالغازات السامة وروائح احتراق اللحم البشري، وما تناثر من رماد كان بيوتاً».

تكتب سما عن الحرب المجنونة: «عشتُ فيها الموت والحياة مع أولادي، مثلي مثل كل أهالي غزة». ثمة رفض للموت، وتشبّث بالحياة لا يسهل وصفه، إلا بمــقدار كبير من التفاصيل والجزئيات اليومية، وصور من المعاناة لا يتخيلها الخيال. صور لا يعرفها إلا من عاشها، وربما لا يشعر بأخطارها إلا من وقع تحت جحيمها. وعلى رغم أن كثراً من كتّاب غزة عايشوا ثلاث حروب خلال السنوات العشر الأخيرة، قد يكون هذا الكتاب هو الأول من نوعه أو «جنسه».

ولأن سما حسن تنتمي إلى كتّاب القصة القصيرة والقصيرة جداً، فهي تعمد إلى الحالات المكثفة لوصف المشاهد والحوادث التي تنقلها نقلاً «فوتوغرافياً»، ولا تترك تفصيلاً مهما كانت درجة أهميته. والأهم من هذا، أنها تستطيع مزج المواقف الجدّية والمرعبة، بمواقف الهزل والسخرية مما يجري من حولها، أو أمام عينيها، هي التي تكتب بواقعية قاسية جدّاً، عن مشاعرها ومشاعر أبنائها الأربعة (بنتان وولدان)، فتحوّل المأسويّ والتراجيديّ إلى مادة للسخرية السوداء.

وبواقعيّة خشنة، تغوص الكاتبة في التفصيلات الصغيرة المؤلمة، الخبز والماء والغاز والطبخ، فتنقل للقارئ صوراً من المأساة التي تتسبّب بها وحشية العدو الصهيوني، من هدم وقتل وتكسير. ثمّ تنتقل إلى الشوارع، فتغوص في محيطها من شوارع وبيوت الجارات، وتلتقط شواهد من عذابات الغزّيين عموماً، وتسمّي الأشياء بمسمّياتها، وتتحدث عن جارة هنا وثانية هناك بشيء من الهزل، وباللهجة المحكية: «قابلتُ جارتي الأرملة، قلتُ لها: يقطع شرك إنتي أول وحدة هربتي؟ ردت وهي تضحك: أنا زي سوبر مان اللي بيلبس البدلة اللي بيطير فيها تحت ملابسه العادية، أنا زي هيك لابسة ملابس الخروج تحت «أواعي الدار». على طول شلحت وجريت مش زيك لسه بدك اتدوري على أواعي واتغطي راسك، أنا دايماً جاهزة للانطلاق…».

وللكاتبة حضورها الشخصيّ القوي هنا، فتكتب: «عاصرت الانتفاضتين، وهذه الحرب الثالثة التي أعيشها على أرض غزة، فمضغت الصبر حتى أصبح شعاري دوماً: أنا بخير»، أو حين تصرخ بمرارة: «لا تقولوا لي اهربي أو اطلعي من البيت، وين نروح؟ وين نروح؟! في غزة أحسد كل من يموت مرة واحدة، لأن الأحياء يموتون كل لحظة»، أو تترك لابنتها (14 سنة) أن تتكلم بألم كيف عاشت ثلاثَ حروب في عمرها القصير، وكيف تتمنى أن تتقدم لامتحانات التوجيهي من دون أن تكون هناك حرب لكي تستطيع الاحتفال بنجاحها!

وها هي الكاتبة امرأة تعرف الحرب وأدواتها، بما يمكّنها من «طمأنة» أبنائها، تقول: «كنا نتحدث همساً وندعو، نبكي ونضحك ونتناقش ونضع توقعات، سمعت صوت صاروخ من بعيد. تململ ابني بجواري، فهمست لأسمع الجميع: هذا صوت صاروخ مقاومة يعني رايح ع إسرائيل مش صاروخ إسرائيلي جاي علينا، صرت أميّز صوت الصواريخ. لا أدري كيف أشرح طريقة التمييز، ولكن بواسطة حاسة سمعي أصبحت أميزها بدقّة، وأطمئن نفسي وأولادي، أتحسّسهم وأنا ممددة بجوارهم اطمئنوا. ما زلنا أحياء!».

على هذا النحو، تجمع الكاتبة ما يشبه القصص القصيرة، لكنها قصص واقعية تماماً، غير أن هذا لا يمنع من حضور التخييل الذي يخفّف من سوداوية واقع تنقله كتابةً، وهو ما يتطلّب قراءات مختلفة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى