أبناء قوس قزح/ عوْدٌ على بدْء في الشعر التونسي الجديد

الجسرة الثقافية الالكتروينة

*منصف الوهايبي

المصدر / القدس العربي

بَرَزْتُ منَ المنازِلِ والقِبَابِ
فلم يَعْسُرْ على أَحَدٍ حِجَــابِي
فمنزليَ الفضاءُ وسقفُ بيتي
سماءُ اللهِ أوْ قطعُ السحـــابِ
فأنتَ إذا أردتَ دخلتَ بيتي
عليَّ مُسَلِّماً من غَيْرِ بــــــابِ
لأنّي لم أجدْ مصراعَ بابٍ
يكونُ مِنَ السَّحَابِ إلى التُّرَابِ

أبوالشمقمق

* * *

كنت في كتابي «أبناء قوس قزح: مُتخيّر من الشعر التونسي المعاصر»، الصادر في اليمن عام 2004 قد صرفت النظر عن نصوص ومجاميع شعرية كثيرة، فلم ألتفت إلى قصيدة البيت، ولا إلى نمط من «قصيدة النثر» أعدّه امتدادا لما يسمّى عندنا بـ»في غير العمودي والحر». وقد سوّغت ذلك، بكونهما محكومين بمراسم الشفوية، حيث تحلّ الذاكرة محلّ الكتابة، والسماع محلّ القراءة، رغم أنّهما نمطان متدافعان في الظاهر. ولكن، من المفارقة، أنّ كلاّ منهما، مرتهن بالآخر أو يكاد، يخفيه على قدر ما يجليه وكأنه نقيضه أو بديله.
صحيح أنّ الشعر يتذرّع بالذاكرة، غير أنّ الذاكرة كما تعلمنا الدراسات الحديثة «إراديّة» و«غير إراديّة». والأولى تحفظ صورا ووقائع والثانية تحفظ آثارا وانطباعات. فإذا استأنس الشاعر بالأولى، كما هو الشأن في هذا «الشعر» الذي نحن بصدده، فإنّ قصيدته «قصيدة معكوسة» تجري من الذاكرة إلى التصوّر. لأقلْ من الياء إلى الألف، في عود أبديّ لا ينقطع، إذ ْهي تنهض على أساس قراءة قصديّة أو «ذاكرة إراديّة»، ولذلك يكاد شعراء القصيدة الخليليّة (العموديّة) أو قصيد البيت، لا يفلحون في الانتقال من «شعر اللغة» القديمة أو شعريّتها، إلى خارج هذه اللغة أو خارج قاعها البلاغي الراكد، ومن ثم يسهل رصد أساليبها المتعاودة والوقوف على أثر الآخرين فيها، فهي الورقة التي تمتصّ ضوء الماضي والمتخيّل المندثر، أو هي «قصيدة الطيف» أو «الخيال الطائف» الذي يتراءى في أكثر من مكان في الماضي، وفي أكثر من زمان، حتى لكأنّ شاعرها يصدر إراديّا عمّا كان، أو هو يفتح ديوانا قديما ثم يكتب، الأمر الذي يجعلها تحمل في مطاويها إيمانا ما بقيم السلطة المطلقة ونزوعا «دينيّا» إلى التجرّد من رقّ المكان والزمان؛ فضلا عن أن بنيتها الإيقاعية «السيمتريّة» لا تتّسع لأساليب الشعر الحديث وطرائق أدائه (الأداء الدرامي ـ القصصي ـ كلّية الصورة ـ تزاوج الفنون…) أما النمط السائد عندنا، من «قصيدة النثر» وهو امتداد لما كان يُسمّى»في غير العمودي والحر» ـ وكان الأستاذ البشير بن سلامة أوّل من «بشّر» به في مجلّة «الفكر» أواخر الستينات من القرن الماضي، وبرواده الحبيب الزناد وفضيلة الشابي والطاهر الهمّامي ـ فلا يزال في تقديرنا أسير المراسم الشفويّة، أو ثقافة الأذن.
وقد لا يخفى أمر الأسجاع التي تكبّله، وتحول دون انطلاقه في فضاء الكتابة. ولا أنكر أنّني قسوت بعض الشيء، عندما ذكرت أنّ هذه النصوص، لم تكن أكثر من محاولة بائسة لستر فقر اللغة وفقر الإيقاع؛ حتى في النماذج القليلة التي تقدحها «ذاكرة لا إراديّة»، فإنّها لا تصدر عن «الزمن وقد صار تأثيريّا ولا عن «طاقة التلويح الشعريّة»، وإنّما عن «تجاور المختلفات» لا التأليف بينها، كأنْ تجاور بين فصيح وعامي، أو تملي على الثاني (العامي) ما ليس من خاصّية بنيته أو تركيبه أو كأنْ تخلط بين سجع وقافية أو فاصلة إيقاعيّة.
صحيح أنّ الكتابة تغريب لوضع طبيعي وأنّ «التهجين الشكلي اللغوي» مكوّن من مكوّنات وعينا، ولكن شريطة أن يحكم الشاعر السيطرة على لغته، حتى لا ينساح النص ويتشتت، ويتفاوت مراتب ومناطق. فالاستهانة بأوضاع اللغة وأعراضها، محمودة، كلما صدرتْ عن متضلّع متحقّق بمواد شعره، يفضّ أغلاق اللغة، ويتلمّح الأشياء والأسماء في ذاتها وفي أدق خصائصها. أمّا التغريب أو التهجين الذي لا سند له من النص أو من سنن جنسه، أو من عدّة القراءة ومواثيقها، فقد لا ينمّ إلاّ عن ضعف جمالي مردّه، مهما احتال له صاحبه، إلى جمالية ضعيفة.
فإذا كنت في كتابي» أبناء قوس قزح» قد صرفت النظر عن هذه الأنماط ، أو غيرها من «شعر التفعيلة» واقتصرت على نماذج قليلة من مدوّنة الشعر التونسي، يطوّر بعضها «الشكل الخليلي» ويذهب بعضها الآخر بعيدا في التغريب كما هو الشأن في :»قصيدة النثر»، فللأسباب التي تقدم ذكرها؛ وليس من منطلق المركز/الهامش، أو المشرق/ المغرب، أو لأننا نضفي على أنفسنا بُرْد الأستاذية أو نجلس مجلس المحكّمين. فقد استثنينا القصيدة الخليلية (العمودية) عند أحمد اللغماني وجعفر ماجد ومنوّر صمادح وجمال الصليعي ومحمد الغزّي… لأنها لم تكن في تقديري، أكثر من تنويع على قصائد الأقدمين، أي «تشعير»، واستعادة للغة داثرة وصورعفاها البلى. وأكثرها أبيات ونتف يحوك صاحبها أفوافها من هنا وهناك. فهي لا تبرأ من شبهة ومن أثر «مطموس». واستثنيت نماذج كثيرة من شعر التفعيلة، فهي وإن حرفت البنية الإيقاعية الموروثة أو أعادت صياغتها، تظل أسيرة «العمود الشعري» بالمعنى الدقيق الذي استتب له عند أسلافنا، من إصابة في الوصف ومقاربة في التشبيه ومناسبة في الاستعارة.
وما إلى ذلك مما هو شائع ذائع في المدونة النقدية القديمة. واستثنيت «في غير العمودي وغير الحرّ» لتفاوت مستوياته اللغوية وارتباكها، من جهة، وانجذابه أو احتكامه إلى مراسم الشفويّة من جهة أخرى؛ حتى لكأنّ هذا النمط ليس إلاّ شعرا»ملحونا» مترجما إلى الفصيح أو ما يشبه الفصيح. غير أن هذه الاستثناءات وما سوّغته بها وإن لم أشفعه بشواهد ونصوص بحكم الحجم المحدود الذي قدّرته لهذا الكتاب، لا ينبغي أن تسوق إلى استنتاج متعجّل، كأنْ يقع في وهم القارئ أنّه متخيّر « موضوعيّ» أو هو يبرأ من ارتباك المستويات اللغويّة وتفاوتها، أو يسلم من مآخذ الشفويّة ومراسمها. وها أنا أعود إلى هذا الكتاب، لهُ وعليه؛ فأعدّل وأحذف وأضيف. بل لا أترّدد في أن أن أفتتحه بمحمود المسعدي الذي أعدّه شاعرا ضلّ طريقه إلى النثر.
إنّ لغة المسعدي في «مولد النسيان» أو «من أيّام عمران» وحدّث أبو هريرة قال» هي، كما هو الشأن في«أخبار البئر المعطلة» لعلي اللواتي، وفي«عطر واحد للموتى» لباسط بن حسن، أشبه بظل خيالي لا يثبت على حال، ولكن من دون أن تكون قلقة، لأنّ مدار الشعر (وأقصد مطلق الشعر أو الشعريّة) في هذه النصوص، على تراسل أسماء وأمكنة ومفاهيم، تتظافر كلها في صياغة النص، من حيث هو بقايا حالة أو أثر لشيء ما أو لفضاء ما. وهذا نجده أيضا عند آخرين من شعراء تونس، أعود إلى نصوصهم، في مقال مقبل أو أكثر، بشيء من التفصيل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى