أحلام الأطفال أقوى من حصار قطاع غزّة

الجسرة الثقافية الالكترونية
#يارا بدر
عشر سنوات انقضت منذ قدّم المخرج الفلسطيني «ميشيل خليفي» شريطه الروائي الطويل (107 د.) المعنون «حكاية الجواهر الثلاث» للمرّة الأولى (1995)، ولا يزال الحصار مفروضاً على قطاع غزّة الفلسطيني. تحيّة إلى الشعب الفلسطيني الصامد إلى اليوم داخل قسوّة أوضاع الحصار، إلى فنانيه وأطفاله وجّه «نادي لكل الناس» تحيته بعرض الفيلم في «ميترو المدينة» بيروت.
يمتد زمن الحكاية قبل زمن الأحداث في الفيلم، وقبل زمن العرض كما بعده. فدوماً هناك من يحلم بالسفر بعيداً عن الحصار. فخليفي الذي ولدّ في الناصرة الفلسطينية (1950)، وغادر إلى بلجيكا عام (1970) لدراسة المسرح، يشتغل هنا على الهوى الذي يُشيّد أحلاماً تخترق الحصار وكل قوانينه بعبث الأطفال المجنون.
في «حكاية الجواهر الثلاث» تتحوّل أحلام «يوسف» البريئة الممتلئة بعاطفة والدته وزرقة بحر غزّة وطيور الحمام إلى هاجسٍ يسكنه ويلّح عليه للسفر إلى أميركا الجنوبية، بعد أن وقع في حب «عايدة» الفتاة الغجرية التي أخبرته حكاية عقد جدتها الذي ضاعت منه ثلاث جواهر حين كان العقد مُهاجراً مع الجد في أميركا الجنوبية، وأنّ من يجد الجواهر الثلاث ويُعيدها يكون نصيبه الزواج منها.
يبني خليفي حكايته بالاستناد إلى الخرافة التي ترويها «عايدة» على أنّها حكاية قصّتها عليها جدتها العجوز. وعلى ما في الموروث الشفهي من مخيّالٍ سردي مُغرٍّ بالقص والكشف الفني بصريّاً، إلاّ أنّه لغويّاً يبدو غريباً، ثقيلاً، وكأنّه مُصطنع. ولا نشعر بحيويّة الاطفال ومشاكستهم التي تكاد تودي بحياة يوسف إلى الجزء الثالث من الفيلم تقريباً. خاصّة وأنّ هذا الخطاب اللغوي يأتي على لسان شخوصٍ نمطيّة في بنائها الدرامي (الأم- الاخ/ الفدائي- الأخت- الصديق- العجوز الحكيم الضرير رواي حكاية فلسطين والجدّة العجوز).
لكن، وفي المقابل فإنّ حكايات الموروث الشعبي والمخيال الجمعي لشعبٍ مُهجّر ويُهجّر تكتسب أهميّة إضافيّة من كونها وسيلة استمرار ومقاومة بذاتها، وتوشحها بالخرافة يزيد من سحرها وغواية امتثال البطولات فيها. وهي هنا وسيلة حامل سردٍّ سينمائي، فمع ذروة الحدث الدرامي، حين يختفي يوسف أثناء محاولته السفر وتنكشف الحكاية التي كانت بطلتها «عايدة»، يلوّمها والدها ويقول لها الحكاية الحقيقيّة لما جرى، وأنّ العُقد لم يُغادر فلسطين يوماً. فقط غادر يافا بعد نزوح أهلها الاضطراري ومنهم والدته إلى المُخيم في غزّة، وأنّ الفتاة بفعلتها هذه «بعتتْ الولد عأميركا الجنوبية عالفاضي».
لا يستطيع خليفي الاحتفاظ بهذا الإيقاع الفكاهي طويلاً، وبخطابيّة ثقيلة على لسان يوسف العائد من الحلم، نسمعه يقول لعايدة أنّ الجواهر الثلاث كانت دوماً في العقد، هم فقط من لم يكونوا يرونها. فهل العقد أرض فلسطين؟ هل الجواهر هي المدن المُحتلة من بلدٍ واحد؟ وهل تغدو بهذا ذاكرتنا الشعبية ذاكرة مكانٍ بالضرورة، ومتى يتحوّل المخيال الشعبي إلى حكاية خرافية؟!
خليفي لا يطرح أسئلة كثيرة بقدر ما يعرض لوجهات نظر، لموقفٍ ثابتٍ من الهويّة والآخر. فهنا على سبيل المثال لا نرى الآخر سوى عدواً، عسكرياً مُحتلاً. مُحاطاً بالدبابة والبندقية معتمراً خوذته على الدوام، أمّا الفلسطيني فمشغولٌ بذاكرته مع الأمكنة وأحلامه وأمكنته الحاضرة من جبلٍ وبحر وأزقة مُقطعة الأوصال بسبب الحصار. دون أن يؤثر عليه الفقر أو القهر، مقاوماً صلباً لهذا كلّه كما للموت كيفما ارتدى حلّته. نقرأ هذا الخطاب السياسي الفكري كما تصوّره أفلام خليفي من عناوينها، وبخاصة أفلامه التسجيليّة التي قدّمها في بلجيكا، ومنها: «الضفة الغربية، الأمل الفلسطيني» و»المستوطنات الإسرائيلية في سيناء».
خليفي الذي يعتبره الكثير من النقّاد من مؤسسي السينما الفلسطينية الجديدة، يمكن وصفه كذلك بالفلسطيني المقاوم الذي كانت بندقيته هي الكاميرا، ابتدأ خليفي نضاله السينمائي لقصّ حكاية الفلسطيني في صراعه الصعب كما يراه هو نفسه في فيلمٍ وثائقي «ذاكرة خصبة» (1980)، ثمّ أتبعه بروائيات طويلة هي «عرس في الجليل» (1987)، الذي حاز جائزة النقّاد الدوليّة في مهرجان «كان» السينمائي عام (1987)، «عرس الحجر» (1990)، الزواج الممنوع في الأرض المُقدّسة» (1995)، «الطريق» (2003) وأخيراً «زنديق» (2009)