«أصيلة» المغربية… مدينة تحرسها ملائكة الفن

عبدالدائم السلامي
المدن مخلوقات آدمية، لها أفئدة لطيفة وقلوب تحب بها مَن يحبها من الزائرين وتفتح له أبوابَها بالأحضان، وقد تكره بها مَن تكره دونما تملقٍ أو مجاملاتٍ، المدن مزاجية الحب، ولكنها لا تنسى مثلما ننسى ولا تخون.
والأصعب في علاقة الإنسان بالمدن هو أنها كائنات صعبة الحب، ذلك أن لكل مدينة أبجدية خاصة بها، لا تكتَب ولا تتَعلم في المدارس وإنما يهتدي إليها المرء اهتداءَه إلى اليقينِ، فإذا عجز عن تبينِ لغةِ المدينة التي يزور ولم يتقن إعرابَ أحلامِها نَفَرت منه الشوارع وأهملته، وصار فيها شيئا كالجَمادِ، وأمثال هذا كثيرون. وأزعم أن لمدينة «أصيلة» المغربية أبجدية عاشقة تسهل على أرواحِ زائريها مهمة الذوبان فيها، بل الحلول بها محلاتٍ صوفية. ذلك أن التجول في شوارعها وأزقتها يكشف عن وجود صدى وحركة لأرواح مبدعين كانوا قد زاروها فعشقوها وكتبوا عنها أو رسموا فيها جدارياتهم، أو أقاموا بساحاتها نصبا فنية تحرس أحلامها وتحرر فيها أخيلة الناس.
حدائق المبدعين
اختار المسؤولون عن منتدى أصيلة الثقافي الدولي، أن يخصصوا في المدينة حدائق لمبدعين مغاربة وعربا وإفريقيين كانوا قد زاروها وافتتنوا بجمالها الأطلسي منذ بعث المنتدى سنة 1978، حيث تم إحداث سبع حدائق بالتعاون مع المجلس البلدي لكل من الشاعر الفلسطيني محمود درويش، والروائي السوداني الطيب صالح الذي قال عن أصيلة: «هذه المدينة السحرية التي تغلغلت في كياني، ولا شك في أن الناس سيذكرون من بعد، عندما تنتهي رحلة الحياة، أنني كنت أحد الذين ارتبطوا بها»، إضافة للقاص المغربي أحمد عبد السلام البقالي، والشاعر محمد عزيز الحبابي، والمفكر محمد عابد الجابري، والشاعر العراقي بلند الحيدري، والشاعر الكونغولي تشيكايا أوتامسي، الذي وصف أصيلة بقوله: «هي مدينة، الفن سيد مصيرها، وسيد شارعها… أصيلة أحبها حبا هو الهيام، هي بلدة سرعان ما تعرف خفاياها مثل قلب تحبه، ومع ذلك لا تتوقف عن التماس الدليل على أنك مازلت محبوبا، الشمس تعطيها مذاق الحلوى، هنا تحس بشهوة عارمة للحياة، تشتهي أن تكون قطة تطلب لطف الملامسة، جدران أصيلة نشيد هامس للأيدي التي شكلتها».
وهي حدائق تمثل أجلى صورة عن اعتراف المدينة بجهود المبدعين، ورغبتها في تخليد ذكراهم، حتى تكون سبيلَ الأجيال القادمة إلى الحفر عميقا في ذاكرة المدينة وتوفير ما به تظل هذه المدينة معشوقة الشعراء والروائيين والفنانين. وكل حديقة من تلك الحدائق إنما هي فضاء مليء بالأزهار يخضع لمراقبة بلدية يومية وتتصادى فيه الظلال خفيفة مانحة الزائرَ فيءَ المَقيل وغنيمةَ التخييل. يضاف إلى ذلك حرص منتدى أصيلة على بعث جوائز أدبية في الشعر باسم الشاعر بلند الحيدري، وفي الرواية باسم الروائي محمد زفزاف، إضافة إلى جوائز أخرى في الفن التشكيلي وأدب الطفل.
جداريات نورانية
ما إن تدخل باب القصبة حتى تستقبلك أزقة المدينة القديمة وتدور بك في ثناياها الملتوية، حاكية لك أعذب حكاياتها التي يمتزج فيها الواقع التاريخي بخيال الأطلسي الهامس، بغرائبية بلاد المغرب وسحرها السردي، فإذا بك تتبع تلك الأزقة مسلوبَ الإرادة لا تملك من نفسك إلا الاندهاشَ بما ترى من أقواس قديمة، وأبواب زرقاء، وبيوت متضامة في عناق حميم، وشمسٍ توَقع الساحات توقيعات موزونة، حتى لكأنها تعزف الضوء بين تلك المباني وتوزعه على الناس خفيفا لا هو حار ولا هو بارد، وإنما هو نور يهدي إلى الجمال والمتعة والاطمئنان. وعلى أغلب جدران المدينة العتيقة تظهر جداريات فنية كبيرة رسمها فنانون من مختلف أنحاء العالم، وفيها يمتزج الأزرق البحري بالأبيض الأطلسي في مشهدية كرنفالية محتفية بكل ما هو ضوء، وبكل ما هو لون، وبكل ما هو من صلب الضوء واللون.
وعلى أرصفة شوارع أصيلة وفي حدائقها ووسط مفترقات طرقاتها تنهض منحوتات فنية كبرى أنجزها فنانون مغاربة وأجانب، وأغلبها يمتد على طول شارع الأمير مولاي الحسن المحاذي للبحر، فإذا بكل منحوتة تاريخ من الجَمال يشهد بقدرة مدينة أصيلة على إخلاصها لزائريها وتكريمها لهم واعترافها بحق أرواحهم في أنْ تسكن منها القلبَ.
(القدس العربي)