أقيم في غاليري لمسات في القاهرة بمشاركة (30) فنانة: معرض «مبدعات».. انشغالات المرأة ورؤاها

محمد عبد الرحيم
تحت عنوان «مبدعات» أقيم معرض لفنانات تشكيليات تباينت أعمارهن وتجاربهن، والمدارس الفنية التي ينتمين إليها. والعنوان الكبير الذي جمعهن هو «المرأة» كموضوع للعمل الفني. وما بين أعمال التصوير الزيتي والحفر والرسم على الزجاج والموزاييك، تنوعت هذه الأعمال التي تعدّت الـ (60) عملاً فنياً، كذلك جاءت بعض المشاركات من فنانات بعض الدول العربية والأوروبية، بجانب المصريات، فبدت هذه الأعمال في مجموعها بما يشبه الخريطة النفسية والاجتماعية للمرأة في هذه المجتمعات ــ العربية منها بوجه خاص ــ والغارقة في مشكلات لم تزل تعيشها ولم تُحل منذ زمن، وربما تفاقمت أكثر في الوقت الحالي.
وقبل مناقشة بعض من هذه الأعمال، يدور التساؤل حول اقتصار المشاركة على المرأة فقط ــ ربما تماشياً مع عام المرأة الذي افتعلته الدولة هذا العام ــ فإن كانت (هي) موضوع العمل الفني، فكان من الممكن مشاركة الفنانين من الرجال، فيكون التعبير عن هذا العالم أشمل وأدق، وأدعى لعقد مقارنات دائمة بين مخيلة الفنانين الإبداعية والفكرية بالأساس، فالفن انعكاس واضح وكاشف لنفسية الفنان، رجلاً كان أو امرأة.
المتوقع والتقليدي
غلب على العديد من هذه الأعمال ما هو متوقع وشديد التقليدية.. نساء مقيدات، يتوارين خلف القضبان والأسلاك الشائكة، أو مجموعات لفلاحات منتحلة صورهن من أفلام الأبيض والأسود، أكثر من وجودهن الحقيقي، أو امرأة تحمل خبزها وتقف أمام فرن ريفي، لنقترب أكثر من تابلوهات كانت تزيّن منازل الفئة المتوسطة التي اختفت الآن. التقليدية الباهتة هذه لا تقتصر على الموضوع، بل تمتد إلى الأسلوب، وبالتالي التكوين واختيار الألــوان، ليصبح الأمر في النهاية ما بين افتـــعال الحالة الفنية، سواء حالة من البهجة، أو تواتر مفردات من قبيل القهر والظلم والاستعباد الاجتــماعي. ورغم سِمة التقليدية والمباشرة، توجد بعض الأعمال يبدو من خلالها الكثير من الوعي والنضج الفني.
الجسد الأنثوي وعالمه
ما بين احتجاب الجسد وتأليهه تبدو بعض الأعمال، فالفنانة سها حسن، على سبيل المثال، تمجّد الجسد الأنثوي، وتخرجه عن إطار الجسد المرغوب، أو كما يبدو دوماً محلاً للإغواء، بل تجعله أشبه في التكوين بالمنحوتات اليونانية، حيث كانت المرأة تشارك الرجل في كونها إلهة ضمن مجمع الآلهة. هنا يصبح المجال الجسدي ممثلاً للكمال، وهو المستمد من العقل، كمال النسب التكوينية للجسد وتفاصيله، ورغم ذلك تصر الفنانة على جعل العمل ينتمي إلى زمن آخر لا نحياه الآن، كتماثيل فينوس، فرغم الأذرع المبتورة، تبدو النظرة الهادئة والواثقة، وكأنها على يقين من عودة عالمها إلى التناغم مرّة أخرى. ومن فينوس إلى موناليزا، لكنها الآن منتقبة، ولا نتعرفها إلا من خلال جلستها، يحيطها صخب لوني مقصود، يشوّه عالمها، ويجعلها تائهة أو تحيا في متاهة، كما في لوحات الفنانة أميرة فهمي. وما بين التباهي والتأسي، يأتي الجسد الأنثوي متمثلاً وظيفته، كما في عمل الفنانة ريم السقا، لتبدو امرأة تلتقط أنفاسها، تعاني آلام الحمل، وما بين الحياة بداخلها ولحظات الوسن التي تتوسلها تبدو جماليات اللوحة وألوانها الهادئة، فوجودها هنا رهن طفل لم يزل يتشكل في داخلها.
أن تحاول التفاعل مع مجتمعك أو ترفضه، من خلال الصورة التي يريدك عليها رغماً عنك، هو ما تعبر عنه لوحة الفنانة السعودية حليمة عسيري، حيث تقف أمراة وتعطي ظهرها إلى المتلقي/العالم، وكأنها في عالمها الخاص، ترتدي زياً أشبه بملابس الأوروبيات، فستان قصير وقبعة، يحدها إطار لوني يشبه الأشجار، وكأنها في حلم، ولا تريد مجرد الالتفات إلى هذا الواقع. وبالطبع كل مفردات اللوحة لا تنتمي إلى المناخ الاجتماعي العربي، رغم مظاهر التمدن الموهومة. وبينما ترفض عسيري هذا المناخ المفروض، تتواصل معه الفنانة إيمان حكيم، من خلال لوحتها عن النساء البائعات في أحد الأسواق، فلاحات يعملن ويحملن أطفالهن، هنا يبدو التآلف مع هذا العالم، وكأنهم لا يزلن قادرات على إنتاج صيغة للحياة يعشن من خلالها. اللوحة تحتفي بهؤلاء، دون الاقتصار على استعراضهن والمتاجرة بهن، كما في العديد من الأعمال، التي تكشف زيف أصحابها.
المناخ النفسي
في عمل كل من الفنانتين زينب عادل وإيمان فكري، نلحظ حالة من التحولات الزمنية وتأثيرها، ومحاولة الإيحاء بها للمتلقي، تتفاعل وفق مناخ نفسي مرتبط بالعمل الفني نفسه. تبدأ زينب عادل من خلال فتاة تحاكي عرائس الأطفال، والرسومات الأقرب إلى الفن الشعبي، حالات ثلاث تتحول عبرهما الفتاة وتتبدّل أحاسيسها بما يحيطها، بداية بحالة أقرب إلى الطفولة، رداء تلونه الورود وشعر معقوص وحذاء أشبه بأحذية المدارس، ثم شكل آخر وقد أصبحت الفتاة في حالة من التواصل الروحي، ترقص كحال الصوفية، القبعة الشهيرة للصوفيين وحافية القدمين وكأنها في طقس مقدس، هنا تبدو أوراق الأشجار هي التي تزيّن الرداء، وصولاً إلى مرحلة الزخارف المتداخلة على الرداء، وشعر يطير في الهواء، وحذاء أشبه بأحذية عصر ألف ليلة وليلة. فالواقع هنا لم يكن في الحسبان من البداية، وحتى لو بدت مظاهره، فهي مرهونه بتجاوزه، وكأن الفتاة انضمت إلى فتيات الأساطير و»الحواديت» الشهيرة. الانتقالات الزمنية هنا ذات ترتيب صارم عبر كل حالة من حالات الفتاة. وعلى الناحية الأخرى يحدث هذا الانتقال الزمني الطويل في لوحتي إيمان فكري من خلال فتاة وامرأة عجوز، فتاة تحاول غزل الرداء، ليصبح جسدها وخيوط الرداء من التكوين نفسه/الجسد، لم تزل هنا حالة الأمل في استكمال تفاصيل الفتاة، أو الحالة التي ترجوها، بينما لوحة المرأة العجوز تقابلها وكأنها تعرف مصير ما يحدث، علامات الزمن هنا على وجهها، الكثير من تجاعيد وابتسامة توحي بحكمة التجارب العديدة التي خاضتها، وقدر كبير من الرحمة وبعض من الاستهانة بما تفعله الفتاة الحائرة. فالزمن عند كل من الفنانتين نفسي بالأساس، وما الانتقالات الزمنية إلا حالة من الكشف أو التنبؤ إن جاز التعبير.
المقارنة الحتمية
وفي الأخير تأتي أعمال الفنانة الألمانية كلوديا أونيس، ومن خلال تقنية الكولاج تصوغ عالمها الأكثر غموضاً، قصاصات وألوان داكنة، وبعض الشخوص مطموسة الملامح والتفاصيل. صخب داخلي لا يهدأ، رغم رصانة الألوان والتكوينات أو الإيحاء الساخر بذلك. هذا العمل يختلف تماماً عن الأعمال المعروضة الأخرى، من حيث الرؤية والأسلوب، بداية من انتفاء المباشرة في تناول الموضوع، وصولاً إلى حتمية عقد المقارنة ــ رغماً عنا ــ بين نساء الشرق والغرب. بين تراث ثقيل من تعاليم وأعراف وطقوس بالية، حتى في محاولات الخروج عليها ــ الخروج على السلطة يؤكد وجودها ــ وبين شكل آخر ونظرة أخرى للحياة والعالم. بين محاولة فهم الحياة ومحاولة الهرب منها، وفي أفضل الأحوال التحايل عليها.
(القدس العربي)