أمين الزاوي: الحداثة ليست غلافاً إنما اكتشاف مرآوي للذات وللآخر

الجسرة الثقافية الالكترونية

حمزة قناوي #

يشبه الحوار مع أمين الزاوي الإبحار أو التحليق. الإبحار في أمواج اللغة بخافقين ينبضان بالرؤية المعمَّقة بظهيري الفكر. والتحليق بجناحين تلامس أطرافهما فوق هذه الأمواج ثقافتي المشرق بتاريخه، والغرب بتقدّمه. استمرَّ في التحليق نحو التنوير مبدعاً روائياً من أبرز الأصوات الروائية في الجزائر، وأستاذاً جامعياً في السوربون، وفي جامعة وهران، ومديراً للمكتبة الوطنية الجزائرية، قبل أن يغادر المنصب إلى الحياة الأكاديمية. يؤمن الزاوي بتحرير الإنسان انطلاقاً من تحرير الأفكار، ويرى في التراث العربي ما يستحق إعادة الاكتشاف والإنتاج ويفوق المُنجز الفكري الغربي، ولكنه ووجِه بسوء التأويل والاعتماد على النقل. يرى في ابن رُشد رمزاً على تنوُّر العقل العربي وفاعليته وأسبقيته التقدمية، ولعله تقاطع معه في ما تعرَّض له من إحراق كتبه، حيث أُحرِقت روايته «السماء الثامنة» عام 1993 في ساحة مدينة سيدي بلعباس من قِبل بعض الشباب الغاضب الذين رأوا فيها كسراً للتابوهات ـ من دون أن يقرأوها! ما زاده إصراراً على مواصلة مشروعه الروائي المُسائِل للثوابت والمُحلِّل للظواهر والمنافح عن أن «طرح الأسئلة أهم من الإجابات»، ففي السؤال خلخلة للوعي وإعادة بعث له.
ندلف إلى الحوار الذي بدأته مع أمين الزاوي منذ التقينا في الجزائر عام 2007، واستمر في تتابعه وتباين إيقاعاته عبر كل هذه السنوات، وهو يتنقَّل من روايةٍ لأخرى ومن لغةٍ يُترجَم إليها لغيرها، ومن عاصمةٍ لأخرى. ابن تلمسان، مدينة الينابيع وغرناطة أفريقيا.

■ من البدايات الأولى، نبدأ من «صورة المثقف في رواية المغرب العربي».. منجزك الأكاديمي وثيق الصلة بالثقافة العضوية. لماذا تواجه هذه الصورة الكثير من التشظي والتفتت في المشرق العربي.. كأن هناك فجوة لا يُرأَب صدعُها بين اتجاهات المثقف في المشرق وقضاياه، ونظيره في المغرب؟
□ يبدو لي أن المثقف في المغرب العربي تشكَّل كقوةٍ ثقافية وسياسية في ظروف تاريخية خاصة؛ أساسها علاقته بالاستعمار المباشر، وأيضاً علاقته بلغة المستعمر، والثقافة التي تحملها هذه اللغة من إيجابيات وسلبيات. فالمثقفون في المغرب العربي كانوا منخرطين بشكل كبير في الحركة الوطنية في شمال المغرب، ومنهم «المعرَّبون»، و»المفرنسون». والفريق الثاني كان سفيراً لحركات التحرر في الغرب، خاصةً في أوروبا الغريبة، من خلال الإبداع والحضور الإعلامي، فكانوا أصوات الحضارة التي تقف في وجه ادِّعاءات الغرب أن شعوبنا همجية غير متحضرة، فكانوا يقاومون عبر هذه الطريقة العميقة، وشكَّلوا مع المثقفين في أوروبا حلقات ضغط إعلامية وفكرية على القوى الاستعمارية لانتزاع الحرية في الجزائر، خاصةً حرب الجزائر التي كانت ركيزة التحرُّر في شمال افريقيا، ونفذوا إلى أهم دور النشر الغربية اليسارية، خاصةً دار (مينوي) و(لوسوي) و(غاليمار). هذه الدور تبنَّت الأصوات الجزائرية الكبيرة: كاتب ياسين، محمد ديب، مالك حدّاد، مولود فرعون، مولود معمَّري، آسيا جبار. ومن المغرب إدريس الشرايبي، ومن تونس ألبير ميمي.
كما أن هناك «المثقف المُعرَّب» الذي كان صوت المغرب في المشرق العربي، في العواصم العربية، واستطاع مدَّ جسور العلاقة الطبيعية بين المشرق والمغرب، ومن نماذج هذا المثقف مُفدى زكريا، وأبو القاسم عبد الله.
■ في كتابة رواياتك باللغتين العربية والفرنسية إيمان بالتعدُّديَّة اللغوية، تماماً كإيمانك الحُر بفاعلية الفكر في التغيير وقدرة الوعي على تجاوز أقنية اللغة باتجاه تحرير الإنسان وتحقُّق قيمة الأدب.. هل أنت مع فكرة أن اللغة ظهيرٌ للفِكر ومحرِّض على توجيه توجهات فكرية لصيقة بها؟ مثال: كيف يمكن أن نكتب بفرنسية «الوفرة والثراء والتحرر» عن واقعنا العربي الغارق في مشهدية الإرباك والأزمات؟
□ أعتقد أن الكتابة بأي لغةٍ أمرٌ ممكن. فاللغة التي نحب بها، واللغة التي نتكلم بها مع الأم، هذه اللغة قادرة على حمل الأسئلة السوسيولوجية، فالعطب ليس في اللغات وإنما في المؤسسات التي تتعامل مع هذه اللغات. واللغة العربية التي حملت كتاب الله قادرة على حمل أي فكر، باعتبارها وسيلة تفكير وتعبير. المشكلة في ارتباط المؤسسات بأنظمة غير متحررة أو ذات فكر تنويري، مما يُكرِّس في هذه اللغة الجانب المُظلم لا التقدُّمي. وكتابتي بالفرنسية أساسها أني نشأت داخل هذه اللغة، في بيئة لغوية مزدوجة، بدون شعورٍ بالاغتراب في داخلها. حتى في العربية نحن نترجم أنفسنا. لذلك ليس من الصعب على من نشَأ في العربية أن يقوم بترجمة لغةٍ أخرى. وأنا محظوظ لكتابتي باللغتين العربية والفرنسية، حيث أشعر بأنني طائرٌ يحلِّقُ بجناحين: مشرقي، بكل ما يحمله الشرق من حضارة وتاريخ، وغربي بكل ما في الغرب من تنويرٍ وتقدُّم. فالكتابة باللغتين تشعرني بالتوازن النفسي، والتحاور في كل بيئة ثقافية بلسان قضاياها.
■ بين «شارع إبليس» و»نزهة الخاطر» و»لها سر النحلة» يتمايز مشروعك الروائي متناولاً الداخل الجزائري والسياسة، وتعمد دائماً إلى كسر التابوهات ومساءلة الراكد والثورة على التحجُّر.. في أي منعرجات مشروعك الروائي تقف حالياً؟
□ الهواجس التي أكتبها بالعربية أكتبها بالفرنسية أيضاً، فأنا لا أكتب لإرضاء قارئ مُعيَّن في هذه الجهة أو تلك. أريدُ «خلخلة» القارئ. لا أريدُ قارئاً مطمئناً ومؤمناً بكل شيء إيمان العجائز. فالروائي الحداثي في تصوري لا يكتفي بصناعة رواية جميلة، لكن يُساهم على المستوى السوسيولوجي في صناعة قارئ جديد بأدواتٍ وبرؤية مختلفة. وأتصور أن القارئ حين ينتهي من قراءة رواية ويخرج منها من دون أن يطرح على نفسه أسئلةً وجودية وفلسفية وغيرها، فقد قرأ روايةً فاشلة. فالرواية يجب أن تطرح قلقاً وجودياً وأسئلةً جماليةً، وأن يبحث القارئ عن ذاته فيها. فرواياتي «صهيل الجسد»، «سماء ثامنة»، «لها سر النحلة» و»يجيء الموجُ امتداداً»، «شارع إبليس»، «حادي التيوس» وغيرها، كان قلقها الأساسي «كيف نُحطِّم التابوهات التي تُصنَع لتكريس البلادة لدى الإنسان العربي»؟ الوقوف على الجهة الأخرى من تكريس مفهوم الإنسان القاصر عقلياً. الأدب ليس استهلاكاً. إنه تحريك وتحريض وقيمة في الحياة. هناك نصوص تعيش معنا منذ عقود، إبداعات نجيب محفوظ، ولويس أراغون، وغيرهما. هذه الأعمال عاشت معنا روحاً لا تُستَهلَك، فهي مُنتَج معرفي وجمالي.
رواياتي تتناول مفهوماً مركزياً هو الحُريَّة. الحرية لا تعني الفوضى، فهي التعبير عن الرأي واحترام المُخالِف، والاعتراف بالقصور والخطأ في وقته، والاعتراف بالآخر. وهي عصب الوجود. وقد انحزت في أعمالي إلى جانب المنافحة عن الحُرية كقيمة، الدفاع عن المرأة، التي أُعدُّ نفسي كاتبها، والمدافع عن وجودها الاجتماعي والسياسي والإنساني عامةً. وجود المرأة كقيمة حضارية لا كعنصر هامشي.
■ إلى أين وصل المشروع الحداثي العربي؟ ما إخفاقاته وارتداداته التي واجهها؟ وهل ترى في المشهد العربي الحالي بما يحفل به من أزمات وصراعات انتكاسةً لهذا المشروع؟
□ حين أتأمَّل الحداثة والتراث أجد نفسي أقرب إلى ابن رُشد والبغدادي والتوحيدي والسيوطي والتيفاسي، منها إلى جاك دريدا وأدونيس وهوبز وفوكو. أشعر بأنني أجد في هؤلاء الفقهاء والفلاسفة والمؤرخين، مقاومة بها عبقرية كبيرة وجرأة ومخاطرة. لا أجد من الروائيين العرب من وصل إلى جرأة الجاحظ في «رسالة القيان».
الحداثة ليست غلافاً أو شكلاً، إنما هي اكتشاف المرآة. مرآتك واكتشاف الآخر. لا يمكن أن ترى نفسك في مرآة الآخرين فقط، وإنما في مرآتك أيضاً. الحداثة العربية وصلت إلى نوعٍ من العطَب، لأنها قامت على معاداة التراث العربي والإسلامي، ولم تستثمر فيه الشجاعة والجرأة، وأخذت بصورة شكلانية حداثة الغرب. وهذه الأخيرة قامت على فلسفةٍ وتطورٍ معرفي، بينما العرب دخلوا الشكل قبل أن يدخلوا المعنى، فظلت كتاباتهم شكلانية الحداثة أو تقليدية. والحداثة العربية لا تكتب خارج المنظور الغربي، نكتب «على قياسِهم» مُغفلين التطوُّر الحضاري والظرف التاريخي، فنحن مُقلّدون تابعون لحداثتهم، على عكس الأدب الصيني مثلاً الذي حافظ على علاقته بتاريخه، واستمدَّ منه تطوره الطبيعي وامتداده.
■ هل الكتابة بالفرنسية تُعمَّق ما هو ضد الهويّة؟ هل اللغة الفرنسية- كما قلت سابقاً- «مُستعمَرة فرنسية مُحرَّرة»؟
□ لا أنتمي لجيل محمد ديب أو كاتب ياسين، أعتبِر أنني عند كتابتي بالفرنسية «مُستعمِرٌ» لهذه اللغة بدلاً من كونها «استعمَرَت» الجيل الأول من الكُتَّاب، من دون فقدان الهوية الوطنية. فأنا أتحدث وأكتب بالعربية وأتحدث البربرية (الأمازيغية)، وأكتب بتوزان امرئ القيس والمهلهل، وهذا لا يُشعرني بالقلق من قراءة بودلير ورامبو. أعيش حالةً من التوازن النفسي والتصالح الحضاري مع زمني. واللغة العربية مستقري وليست منفاي، كما قال مالك حدّاد، وأنتمي إلى جيلٍ متجدد ومنفتح على العولمة والاكتشاف والمغامرة. الفرنسية تقرِّبنا من هويتنا أكثر، فحين تعرف الآخر يكون هو مرآتك لمعرفة ذاتك، وعندما أكتب بالفرنسية فإنها تكون مرآةً لتطورنا وأوضاعنا وموضعنا الحضاري.
■ لماذا تكتب هذا العمل بالفرنسية وذاك بالعربية؟.. ما الفيصل والمُحدِّد؟
□ المسألة مرتبطة بالحلم أو الكابوس. كتابتي مرتبطة بالحلم. فأنا أحلم باللغات ثم أكتب وفق ما حلمت به. الحلم قيمة ثقافية وهو مرتبط بكل ما نعيشه. أجد نفسي حين أكتب بلغةٍ ما كأنني في بحرٍ هائلٍ وعليَّ أن أسبح. وحينما نكتب بلغةٍ ما لا نُدافع عن اللغة في حد ذاتها، إنما نُدافع عن القيم التي تحملها. مشكلة الرواية العربية أنها لم تُترجَم بشكلٍ حرفي، وثمة مفارقة واجهتني في هذا الصدد، حيث تُرجمت أعمالي إلى 13 لغة، ولكنها ذهبت إليها من اللغة الفرنسية وليس العربية. فلغتنا غائبة عن العالم الغربي بكُتّابِها.
■ كيف تتلاقى أعمالك مع أسماء مبدعين في مشهدية الرواية الجزائرية؟ كابن هدُّوقة ورشيد بوجدرة ومولود فرعون وغيرهم؟
□ هناك كُتَّاب يكتبون بشكل جيد. رشيد بوجدرة- وإن كان بدأ يفقد قرَّاءه لأنه لم يُجدَّد نفسه واستمرَّ في المدار نفسه رغم تميُّز قلمه. هناك أسماء من جيلي مثل أنور بن مالك وسليم باشي ومصطفى بن فوضيل وسارة حيدر، تدخل اللغة الفرنسية وتوجد لنفسها مقروئية كبيرة. هؤءلا الكُتَّاب يؤسسون لنص جزائري جديد، بعد تأصلُهم في المدرسة الجزائرية الوطنية، فنحن أبناء الاستقلال. وللأسف الآن في الجزائر المقروءون بالفرنسية أكثر من المقروئين بالعربية، رغم أنه يفترض أن يكون الحضور الأدبي باللغة العربية، ولكن يبدو لي أن الكتابة باللغة العربية في الجزائر لا تأخذ مكانتها (باستثناء بشير مفتي، وسمير قاسمي، واسماعيل يبرير وربيعة جلطي التي سحبت قراءها من الشعر إلى الرواية ولأعمالها مقروئية كبيرة في الجزائر وآخرها رواية «عرش معشَّق» التي لاقت صدى كبيراً). هؤلاء الكُتَّاب ظهروا في المشهد الجزائري مع اشتداد أزمة الجزائر السياسية في التسعينيات (العشرية السوداء). وهم يحاولون أن يصنعوا نصاً جديداً. وأتصور أن رهان مقروئية العربية معلَّقٌ بهذه الأسماء، فهؤلاء الكُتَّاب صنعوا أنفسهم من الأزمة وخارج المؤسسة. فالمثقف «المعرَّب» في الجزائر كان دوماً يُنظر له بعين الريبة باعتباره «مثقف سُلطة».
■ ما الهاجس الذي يسيطر عليك حالياً، القضية التي تشغلك، والدافع الذي يُحرِّك تحفُّزك الإبداعي؟
□ أفكر في السؤال الأساسي حول العلاقة بين الشرق والمغرب الكبير، التي تحتاج إلى ترميم وتجسير. كما تشغلني فكرة ضرورة تأسيس هوامش لاتصال المثقفين العرب بعيداً عن المجالات الرسمية، تستثمر فيها علاقات إبداعية وثقافية حقيقية وليست مرتبطة بالسياسة والمصالح. اتحادات الكُتّاب العربية تحتاج إلى الكثير من المرونة والحيوية لتنشط بفاعلية. واتحاد الناشرين أيضاً يجب أن يتخطى فكرة الاكتفاء بعرض الكتب وبيعها، والجامعات العربية عليها أن تتخطى دورها التعليمي إلى الدور الأبعد التنويري والتثقيفي. لا بُد من الحِراك باتجاه بث الحياة في التنوير.

……….

القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى