احتراف الصورة واحتراق الكتابة

الجسرة الثقافية الالكترونية
توفيق قريرة
لا يخلو عصر من احتفاء الإنسان بالصورة.. الصورة كانت دائما أبسط وسيلة لنقل ما يعتمل في الذهن من أفكار، أو بعبارة أكثر دقة لعرض ما يعتمل فيه من تمثيلات ذهنية عن الكون. وكان أقدم ما ترك لنا الإنسان من تراث ثقافي ملموس صورا في الكهوف أو تماثيل..
ما أكثر هذه التسمية دقّة: التمثال. إنّه هيئة تمثّل ما انطبع في الذهن من صور مجرّدة. التمثال أصدق صورة مشخصة لصورة ذهنية مجردة. لم يكن الإنسان ليعبد شيئا مجرّدا من دون أن يجسّده في تماثيل تحاكيه، فالتماثيل هي مرحلة من تاريخ البشر يجسدون فيها آلهتهم في أشكال يرونها عليها، كأنها موجودة بينهم شاخصة تنظر إليهم وتخاطبهم. كان الذهن المجرد يشتغل قديما بالحسّ ومن الحسّ يعود إلى المجرّد؛ بهذا كانت الصور تمثيلات، لكنها كانت أيضا رموزا. الصورة في عصر التمثال كانت تقدّ من الصخور النفيسة ومن المعادن النادرة كلّ بحسب قدرته وسلطته ونفوذه. لكنّ الفترة القادحة في تاريخ البشر كانت حين صارت الصور شكلا من أشكال الكتابة. فأوّل ما عرف الإنسان القديم الكتابة ما كان يستعمل لها حروفا كما نفعل اليوم، لكن يستخدم لها صورا حتى سميت الكتابة الأولى باسم الكتابة التصويرية. تعدّ الكتابة المسمارية في بلاد الرافدين والهيروغليفية في مصر من أقدم الكتابات التصويرية، إذ تعود إلى القرن الرابع قبل الميلاد. في ذلك الوقت كانت الصور ترمز للأفكار قبل أن تصبح الحروف رمزا لها، كما في نظام كتابتنا اليوم؛ وحتى في كتابتنا اليوم ما تزال بعض الحروف تختزن صورا لكائنات مثلما هو الشأن في أوّل حروف الألفبائية في اللغات الأوروبية الحديثة المنقول عن الألفبائية الفينيقية فاليونانية والذي يختزن صورة رأس ثور (ألفا تعني في الفينيقية الثور).
الصورة إذن نظام علامي قديم أقدم من الكتابة أو الخطّ، لكنّه نظام متطوّر يجد في كل عصر أشكاله التي يعيش بها ويستمر، ولقد عرف في عصرنا كيف يجوّد أدواته فصار يرتكز على محامل كثيرة أهمّا العدسة التي فاقت عدسة العين نقلا وجودة. أغلب المهيمنين اليوم على العالم سياسيا واقتصاديا يسيطرون عليه بالاعتماد على الصورة.
الصورة أقرب العلامات إلى الإدراك لأنّ وسيلتنا التي ندركها بها بصرية وحتّى الكتابة أيضا وسيلتنا إلى إدراكها بصريّة؛ لكنّ الصورة ليست رمزا تصويريا لا تفك شيفرته إلاّ من يعرف الشيفرة كما هو شأن الكتابة. لا يمكن لمن لا يعرف العربية أن يفكّ شيفرة ما أكتبه الآن وأنا لو قرأت الصينية لتعذر فهمي لها، لأنني لا أستطيع فكّ شيفرتها . لكنّ الصورة نظام ترميزي لا يتطلب فكّ شيفرته معرفة بقوانين خاصة، فبما أنّ علاقة الصورة بما تمثله تقوم على المحاكاة أو المشابهة، وبما أنّها من الإيقونات أي العلامات التي لها تشابه بالعالم الخارجي الذي تمثله، فإنّها لا تتطلب مواضعة خاصة، كما هو الشأن في الكتابة، لذلك تكون مفهومة ومدركة بأكثر يسر من أيّ نظام علامي آخر، وهذا ما يفسّر رواجها واكتساحها، عبر العصور، بقية العلامات الأخرى. لكن لكل الناس المعرفة بالكيفية التي تحترف بها صناعة التأثير بالصورة، وليس متاحا لكل الناس أن يحترفوا صناعة التأثير بالكلمة في الخطابة أو بالحرف المكتوب في المقال السياسي أو في النص الإبداعي.
من يمتلكون اليوم العالم كانوا قادرين على أن يحترفوا فنّ التأثير بالصورة وقدرتهم تمثلت في جعل هذا الفنّ يقوم على ثلاثة أسباب كبرى، اثنين منها يرتبطان بالصورة بما هي نوعية أو مادة، وواحد يرتبط بوظيفة الصورة بالنسبة إلى الجمهور الذي تتوجّه إليه. فأمّا السببان اللذان يتعلقان بالصورة مادّة فيتمثّل الأوّل في تجويد إخراج الصورة ويتمثل الثاني في إضافة مرافقات لها من موادّ أخرى كالصوت أو الكتابة، فالصوت أو الكتابة مثلا مرافقان للصورة وهي مقصودة لذاتها كما في النصوص الإشهارية التجارية أو السياسية.
إنّ تجويد الصورة أمر له خبراؤه الذين وصلوا اليوم إلى مرحلة تكون فيه الصورة من جهة الجودة أكثر إبداعا من الواقع الذي حاكته، فإن كان المحاكَى جميلا كانت أكثر جمالا وإن كان المحاكى المنقول بائسا كانت على درجة من الجودة، بحيث تقدر أن تعبّر عن البؤس بأكثر ممّا تعبر عنه الوضعية الواقعية نفسها عيانا. فالصورة هي من هذه الجهة تقوّي ما تريد بفضل الجودة التقنية العالية. والصورة بحكم امتدادها الفضائي الذي يغطي كل الفضاء الثنائي الأبعاد في المحامل الكلاسيكية أو في الفضاء الثلاثي الأبعاد في المحامل التكنولوجية المتطورة، تجعل العلامات الأخرى خادما لها سواء أكان كلاما أم كتابة. وتعتبر المقاطع الإشهارية أبرز مثال على ذلك، فالمكتوب لا يكون إلا بعد أن تكون الصورة قد استنفدت جزءا من وظيفتها التأثيرية والجمالية ؛ وفي نشرات الأخبار فإنّ الصورة تبدأ من ملامح المقدم ولباسه وماكياجه.. للخلقة الفيزيائيّة ولحركة الجسد ولجمالياته وللإشارات التي يأتيها دور في عالم الصورة، وأكثر القنوات الإخبارية حرفية تعرف أيّ الوجوه يصلح لنشرات أوقات الذروة ولغيرها وأيها يستحق المشاهدة في برنامج ولا يصلح ليكون في آخر، أمّا التقارير المصوّرة فهي لبّ الخبر، هي ما ينتظره المتفرّج ليثبت به الخبر أو ينفيه ليزيد في قوة التأثير أو ينقصه.
وأخيرا فإنّ فنّ التأثير بالصورة يرتكز على سبب ثالث هو حسن التوظيف وهنا فإنّ الوظيفية التأثيرية أو الانفعالية هي التي تطلب اليوم في كثير من المؤثرات التي تعتمد الصورة. لكنّ الانفعالية ضربان أحدها قصير المدى وثانيهما طويله، فقصير المدى يريد تحقيقا للهدف قريبا وآنيا، لذلك يسعى إلى تجييش الحسّ وإلى خلق ردّ فعل سريع لدى المتفرج، وهذا ما نجده في الاشهار وفي السياسة وفي السينما وفي غيرها. وأكثر الانفعالية تأثيرا ما تصبح فيه الصورة محملا رمزيا يتخفى فيه المطلوب وتدفع الصورة متلقيها إلى أن يتفاعل بالبحث في المخفي: إنّها تعتمد الإيحاء والإيماء والترميز. وإذا كان التأثير الأول يقتل التفكير فإنّ هذا يحييه وإذا كان التأثير الأوّل يذهب العقل ويحدث النشوة ثم يستفيق بعدها العقل بعد التنويم فإنّ العقل مع هذا التأثير لا ينام ولا ينوّم بل ينشّط؛ وتأثير هذا الضرب من الصّور أكبر لأنّه تأثير واع ويبرز في مجالات فنية كالسينما التجريدية أو الرمزية وفي البرامج السياسية ذات السقف الثقافي العالي جمهورها قليل لكنه موجود.
في ظل هذا العالم المؤثّر من الصور تجد الكتابة متنفسها لأنّها تعيش في ظل ثقافة الصورة. يمكن للكتابة أن تصنع الصورة كما هو الشأن في السينما حين تنقل النصوص إلى صور؛ لكن من يحوّل المكتوب إلى مرئي تصويري ينبغي أن يكون عارفا بكيفية ترجمة نظام علامي إلى آخر، ولقد أصيب كثير من الكتاب والقراء بالإحباط حين رأوا ما كتب وهو يفقد ميزته الفنية والفكرية على الشاشة الكبيرة أو الصغيرة لأنّ عيون المخرجين كانت أبسط من أن تستوعب قلم الكاتب، غير أنّ هناك نصوصا أخرى مكتوبة زادتها السينما إبداعا على كتابتها.
في البلاد التي لا يصدّق فيها الكتاب أنّ العالم صار ملكا للصورة ويبحثون عن تعايش لكتابتهم مع ذلك العالم ينشأ نوع من الصراع بين الفنون التي تكون الكتابة سندها (القصة المسرح الشعر..) والفنون التي تكون بالصورة. فلا يرضى كتاب الرواية أو القصة على السينما ولا يرضى صحافيو الورق على صحافيي القنوات التلفزية، وقد لا يرضى شاعر عن لوحة فنان وقد لا تروق قصيدة لرسام وقد يتراميان بقلة الفهم ويصير الأمر محمولا على عدم التفاهم. في كثير من البلاد التي لم تتعايش فيها الصورة مع الكتابة يعيش المبدعون والفنانون والإعلاميون في جزر بينها مسافات من سوء التفاهم ومن الجهل أو التجاهل، في هذه البلدان لن تموت الصورة بل ستعيش محرومة من الكلمة والحرف وستحترق الكتابة لأنّها ستضيء لوحدها ولن تجد من يسرج نارها من بقية العلامات الأخرى التي ظلت تعيش مثل الصورة على مادة نورانية بالأمس واليوم وغدا.
المصدر: الفدس العربي