استعادة رولان بارت أو الإمبراطور الذي التقط علامات عصره الضاجّ بالصور

الجسرة الثقافية الالكترونية
*عبد اللطيف الوراري
المصدر / القدس العربي
يحتفل الوسط الثقافي الفرنسي، خلال هذه الأيام، بمرور مئة عام على مولد الكاتب رولان بارت، فقد اعتبرت السنة الجارية 2015 بمثابة «سنة بارت»، حيث يقام مهرجان أفلام بعنوان «بارت في 50 فيلما»، وندوات وقراءات ومعارض تلقي الأضواء على كتابات هذا المثقف ومنظّر اللغة والأدب والكاتب الأساسي في النصف الثاني من القرن العشرين.
كما تنشر دار النشر الأشهر (سوي) كتاباً بيوغرافيّاً عنه من تأليف تيفان سامويو، يتتبع المشوار الثقافي لهذا الكاتب الأشهر بين مجايليه، الذي استمر نحو ثلاثة عقود ونصف العقد. ويستند تيفان في سيرته البارتية إلى أرشيف غير منشور للكاتب، بما فيه الرسائل التي كان يتبادلها مع أصدقائه، ومذكراته ومخطوطاته التي كان يستهويه فيها أنه يتكلم عن طفولته وعلاقته القوية بوالدته، وعن مشروع كتابته العابر للأنواع وصِلاته مع أصدقائه من كتاب فرنسا المشاهير أمثال، أندريه جيد، بول سارتر، فيليب سوليرس وميشيل فوكو.
إمبراطور العلامات
وكان رولان بارت قد ولد في12 نوفمبر/تشرين الثاني 1915في شيربورغ من أب عمل ضابطاً في البحرية وتوفي في إحدى المعارك بعد عام من ولادته، ليقضي طفولته مع والدته في بايون ثم باريس، حيث تلقى تعليمه الثانوي ودرس الآداب الكلاسيكية والأدب الفرنسي وتاريخ الفلسفة إلى حين حصوله على الإجازة من جامعة السوربون. نشر في مجلة «»Combat نصوصه الأولى التي سيتشكل منها كتابه المعروف «درجة الصفر في الكتابة» (1953) الذي اعتبر بيانا لنقد جديد يولي عنايته بالنحو المحايث للنصّ، بموازاة مع ظهور مجلة «تواصلات» ثم «تيل كيل» اللتين بشّرتا بعلم النص.
وأخذ صيته يذيع منذ أن حصل على منحة من المركز الوطني للبحث العلمي، وعُيِّن مديراً للأعمال في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا، قبل أن يسافر إلى الرباط وبوخارست والإسكندرية وجنيف واليابان والصين للعمل أو لإلقاء محاضرات، حتى نيله درجة الأستاذية من الكوليج دي فرانس الذي شغل به كرسي السيميولوجيا من 1977إلى 1980 سنة رحيله.
وقد اتسعت أعمال بارت لتشمل حقولاً معرفية متنوعة: الأدب، النقد، السيرة الذاتية، علم اللغة، السيميولوجيا، الرسم والفوتوغرافيا إلخ. إمبراطور علامات لم ينقطع عن التفكير والإصغاء إلى عصره المضطرب والضاجّ بالصور. وقد تأثرت هذه الأعمال بقدر ما أثّرت في تطور اتجاهات فكرية رائدة مثل البنيوية، الماركسية، الوجودية، التحليل النفسي، السيميائيات وما بعد البنيوية. كما يُعدّ إلى جانب كل من ميشيل فوكو وجاك دريدا وجيل دولوز، من مؤسسي اتجاه ما بعد الحداثة، الذي اكتسح في الربع الأخير من القرن الماضي مجالات الفن والفلسفة والأدب. وأشهر مؤلفاته التي نشرت في حياته أو بعد مماته: «درجة الصفر في الكتابة» (1953)، «أساطير» (1957)، «مبادئ في علم الأدلة» (1965)، و«نظام الموضة» (1967)، «إمبراطورية العلامات» و«S/Z» (1970)، «لذة النص» (1973)، «شذرات من خطاب عاشق» (1977)، «الغرفة المضيئة» (1980)، «جلبة اللغة» (1983) و«المغامرة السيميولوجية» (1984). ويكتشف القارئ لسيرته الذاتية المسماة «رولان بارت بقلم رولان بارت» (1975) عملاً سيرذاتيّاً فريداً ليس في ما تضمّنه من جوانب طريفة من طفولة بارت وحياته الخصيبة، وإنّما كذلك في طريقة تأليفه لهذه السيرة التي ناقض بها التعريف اللوجوني وقواعده المعروفة، مازجاً فيها بين السرد والشعر والتأملات والفوتوغرافيا، ولسان حاله: «في مجال الذات، ليس ثمّة من مرجع».
رولان بارت بقلمه: شذرات.. صور وتخيلات
«رولان بارت بقلم رولان بارت»، هي سيرة ذاتية كتبها رولان بارت عبر شذرات تُفكّك المفهوم التقليدي للذات، بشكْلٍ مُوازٍ مع الدعوة إلى نقد جديد للنص يُثمّن دور القارئ ويُنظّر لفعل القراءة، بقدر ما يلغي المؤلف أو يدعو إلى «موت المؤلف» بتعبيره. وقد ساهم هذا الرفض للمؤلف بوصفه ذات مُوحَّدة، في صياغة فهم جديد للنص السيرذاتي، أو سعى إلى إعادة التفكير في السيرة الذاتية، وهو يركّز نوعاً ما على النص ككيانٍ دالّ في حد ذاته. ويمكن القول إنّ عبارته: «في مجال الذات، ليس ثمّة من مرجع»، هي بمثابة استراتيجية تلخص جوهر السيرة الذاتية التي كتبها رولان بارت سنة 1975، أي في السنة ذاتها التي أصدر فيها فيليب لوجون كتابه المؤسس «الميثاق السيرذاتي».
إنّها سيرة ذاتية مضادّة، مثّلت نموذجاً للانتقال من لهجة الواقع إلى التخييل داخل مجال السيرة الذاتية. فما أن نأخذ الكتاب بين أيدينا حتى يتجلّى لنا الاختلاف بالقياس إلى السيرة الذاتية التقليدية. اسم المؤلف يشغل جزءاً من عمل العنوان لإلغاء أي إحالة إلى خارج النصّ. وفي الصفحة الثانية من الغلاف، ينبّه التصدير الآتي القارئ بأن لا يقرأ هذه السيرة الذاتية من أجل أن يتعلّم شيئاً ما عن الرجل، رولان بارت: «كلّ شيء يجب أن يعتبر بأنّ شخصية روائية ما تقوله»، ثُمّ يبدأ النص بسلسلة من الصور لبارت الطفل وأبويه وجدّيه، وبايون (المدينة التي نشأ فيها)، وبارت المراهق والشابّ. تشتمل السلسلة كذلك على بعض صور المؤلف الناضج الذي تجاوز الخمسين من عمره، تمّ التقاطها بين عامي 1970 و1974.
تمثل صور الشباب «ما قبل تاريخ» جسده، الجسد الذي- بحسب بارت- ينساق وراء العمل، متعة الكتابة (ص6).
هذا هو «ما قبل التاريخ» تحديداً، الذي يتموضع قبل الحياة المنتجة لمرحلة البلوغ، ويمكن أن يبني «سيرة»، أي «المدة السردية». في مرحلة البلوغ، يصبح كاتباً، كما تشير إلى ذلك نهاية السرد وسيرة الماضي، وما يتبقى من السيرة الذاتية سيخصّ ما كتبه بارت طوال حياته المهنية. يقول: «مذ بدأت أنتج، مذ بدأت أكتب، فإنّ النص نفسه هو ما ليس بحوزتي (لحسن الحظّ) من مُدّتي السردية. النص لا يمكن أن يحكي أبداً».
هكذا، تأخذ السيرة الذاتية شَكْلاً وهي تُبْنى من شذرات يُفسّر فيها المؤلف ما كتبه خاصة، ويشرح «دائرته الكلامية» الخاصة، أو يتأمّل في الموضوعات التي تشغل باله، مثل اللغة. عبر هذا وذاك، تتكشف المعلومة التي نتوقعها من السيرة الذاتية: وصف موجز ليوم مثالي في العمل، ذكريات المدرسة، لعب الأطفال، تفصيل صغير عن اختلاس «شريحة لحم» إلى أن يتعافى بارت من مرضٍ ألمّ به في الرئتين، ردّ فعل النقاد على ما كتبه، قراءاته، مساره الفكري والمؤثرات التي تكبدها، إلا أن هذه التفاصيل لم يتمّ عرضها كرونولوجيّاً.
إن الاختلاف الرئيس بين سيرة رولان بارت وبين السيرة الذاتية المتعارف عليها، يكمن في تصوُّر العلاقة بين الذات والنصّ، أو بين الذات واللغة، وهو التصوُّر الذي يقوم عليه أساساً المشروع السيرذاتي البارتي بأكمله. فهو من جهة، يلغي التطابق الثلاثي (تطابق السارد والشخصية والمؤلف)، ومن جهة أخرى ينفي عن النص السيرذاتي طبيعته المرجعية، مستفيداً في ذلك من التعريف الذي يعطيه لاكان لمفهوم المُتخيَّل. المؤلف الذي يكتب يختفي أمام النص، ويستخدم ضمير الغائب للحديث عن أنشطة ماضيه، وهو ضميرٌ يحيل إلى اللاشخص، عوض أن يختار الضمير الشخصي.
رولان بارت « العربي»
كانت لرولان بارت شهرة عالمية تعدّت المجال الفرانكفوني، بحيث ندر أن لا تحيل إليه مراجع النقد الأدبي والفكر الجمالي واللساني وما بعد الحديث في الشرق كما الغرب على حدّ سواء. إنه حاضر بقوّة الضرورة التي تصدع بمدى تأثيره المدوي في حركة الحداثة الأدبية والنقدية في العالم بأسره.
في المجال العربي، لا يخطئ القارئ حضور بارت الذي اقترن بانفتاح النقاد العرب على المناهج الحديثة وانخراطهم في الفكر النقدي الجديد الذي يتسم بالصرامة المنهجية التي لا تتعارض مع المرونة وتعدد القراءة وممارسة التأويل؛ وهو ما يبرر الإقبال على ترجمة معظم أعماله المؤثرة إلى العربية في ثمانينيات القرن الماضي، ابتداءً من «درجة الصفر في الكتابة» (ترجمة محمد برادة 1981)، و«درس السيميولوجيا» (ت. عبد السلام بنعبد العالي 1985)، و«النقد والحقيقة» (ت.إبراهيم الخطيب) و«مبادئ في علم الأدلة» (ت.محمد البكري 1986)، و«لذة النص» (ت. فؤاد صفا والحسين سبحان 1988).
وبحكم أن المغاربة كانوا أسبق إلى ترجمة بارت والتعريف بإرثه النقدي على الصعيد العربي، فقد كان النقد المغربي فالمغاربي مُبادراً إلى الانفتاح على بارت واستثماره تدريجيّاً، لاسيما أنه أقام بين ظهرانيهم في الرباط بين عامي 1968 و1969، وإن كان هذا النقد لم يكن ذا جهوزية لتقبّل أفكار بارت بحكم جرأته، أو بسبب تحكم «نظرية الانعكاس» فيه وما يترتب عليها من نقد إيديولوجي فجّ وقاصر. لكن نُقّاداً أو مترجمين من أمثال عبد الكبير الخطيبي، عبد الفتاح كيليطو، إدريس الناقوري وإبراهيم الخطيب، قادوا معركة نقدية منذ أواخر السبعينيات، من أجل القطع مع نقود الإيديولوجيا والتقليدانية والوعي بدور النقد في إبراز خصوصية الأدب وجماليّاته النصية أكثر من وظائفه ولغته المتعدية.
وفي كتابات نقاد البنيوية وما بعدها من قبيل كمال أبو ديب، صلاح فضل، موريس أبو ناضر، حسين الواد، محمد مفتاح، عبدالسلام المسدي ومحمد برادة، تتلامح صورة رولان بارت وهو يطلق أضواءه في عتمات النص وشيفراته. رولان بارت كان أكبر من النظرية، إنّه مغامرة، مصباحٌ سحريٌّ، ومُفكّك خطابات الحداثة والإمبراطور الذي التقط علامات العصر الضاجّ بالصور.