«اسمه أحمد وظله النار» لمحمد المطرود… قصة العبور السورية!

الجسرة الثقافية الالكترونية
رفيقة المرواني
ليس ثمة كتابة أكثر تأثيراً في نفسية القارئ العربي من الكتابة عن وطن مفقود، وطن مطعون بالنار، هذا القارئ المسكون بالخوف والبكاء ليس من الصعب استدرار شفقته بكتابات محشوة ألماً، ولعل الكتابات الأخيرة التي جاءت أثر ما يعرف بالثورات، حملت الكثير من هذا الإسراف في الوجع والبكاء.
لعلنا نجد ما ذهبنا إليه لدى الشاعر والناقد محمد المطرود في كتابه «اسمه أحمد وظله النار» الصادر عن النهضة العربية بيروت، فقد رثى سوريته وأسهب في وصف مشقة العبور، تاركا وراءه ذاكرة العنب وحنين الماء. المطرود السوري يروي سيرته الذاتية بشاعرية موغلة في الدهشة والمجاز، لم يكن حديثه عن الموت بهدف كسب تعاطف القارئ أبدا، بل كان يروي ظمأه للوطن ووحشة المنفى بكبرياء وإنكار لدمع لا يفضي إلى أرض الوطن ـ الوطن الذي غادره مكرهاً.
يستهل المطرود كتابه بإشارة لإميل سيوران «لكم يمتد الموت بعيدا بحكم ما يكتسحه من مساحة، حتى أني لم أعد أعرف أين الموت»، وهو بإشارته تلك يهيئ القارئ لرحلة مضنية يكون الموت فيها حاضراً عابراً للمسافات، فالمطرود يحمل الموت في حقيبة ويعبر به الحدود وصوت النار يدوي خلفه، الموت الذي ترك سوريا الأم تحترق، وتفيض رمادا وتشهق دخانا. ومن هنا فاستشهاد الكاتب بمقولة سيوران كانت مقصودة ليبرز لنا في وقت لاحق يأسه من واقع معدوم حكم عليه بموت خبيث لم يمنحه رحمة الموت في بطن سوريته المحروقة.
ما يميز «اسمه أحمد وظله النار» ذلك الحضور الطاغي للمرأة، وهذا التوحد بين كيان الأنثى من جهة والفاتنة سوريا من جهة أخرى. يفتتح المطرود نصوصه بإهداء رشيق أشاد فيه بأهمية المرأة ودورها المؤثر في جل مراحل نضجه، تحدث عن المرأة (الأنثى) مشبهاً إياها بالطبيعة (الغابة /الأرض /الماء /…) مؤكدا أن شعورها بالألم عميق بعمق رهافة شعورها، هذه المرأة هي سوريا الفاتنة بأخضرها وأزرقها وأبيضها، هي سوريا بفتنتها الشاسعة وتفاصيلها الكثيرة والقريبة، هي سوريا الغواية التي لا تنتهي في قلب العاشق، سورية التي شبهها بشجرة العنب التي نسي أن يسكر بها، امرأة دمعها قهر كدمع الرجال، بل وأغلى، يتحسر المطرود على تلك اللذة التي نسي أن يختبرها قبل أن يجيء عبوره فجأة
في فصل العبور، ويموّه المطرود بأنه قد ناقض نفسه ويغالط القارئ عندما يقول: «لتبديد الخوف تحتاج إلى خمر وامرأة» لا يهم أن تكون المرأة جميلة/ النساء الأقل جمالا أقدر على العطاء وإشاعة الدفء».
في القراءة الأولى لهذا القول تكاد تجزم بأن المطرود بصدد الحط من شأن المرأة واعتبارها مجرد وسيلة للراحة وتفريغ الشهوات، وهنا بالذات يظهر ذكاء الكاتب، حيث انتقل من الحديث عن الآني سوريا/سوريا الأنثى إلى أخرى تتجسد في هذا المنفى والوطن المستعار الذي فرض عليه التعايش بعقلين ..عقل يستحضر عبورا مرا. وعقل آخر ينظر إلى شارع الدم في الشاشة… فالمرأة القبيحة التي أجبر على معاشرتها هي الوطن البديل، حيث يتمتع بكل ما هو اصطناعي.
معجم الطبيعة كان أوسع من أن يختصر في «اسمه أحمد وظله النار» بحيث وظّف المطرود عناصره في استدلال على دلالات أعمق/ فالطيور: أطفال سوريا الذين وأدتهم الحرب وجعلت من الخضرة أكفانا تليق بهم /والشهداء طيور الله الذين بذلوا أرواحهم فداء للوطن، والذين لم يرضوا أن يكونوا هدفا سهلا لصياد غبي، ولا أن يرغموا على دخول سجون مرفهة كما حصل مع المطرود أو غيره من المنفيين /والطيور أبناء قدامى للإنسان، للشجرة / للطبيعة.
المطرود (الطائر البدوي) السوري الحالم ببحيرة يرتد الأخضر على سطحها، وظف عناصر الطبيعة لصالح مرثية لم يكتبها أحد قبله، صور الموت بحرفة تكاد تجعلك تعشق موتا على طريقة المطرود، موتا لا يكون فيه البكاء مجرد طنين أو محض رطن وغمغمة ضعيف، بل لغة تترجم ذاكرة عبور قاسية ذاكرة مسكونة بذاك الأخضر الخفيف.
ما يحسب لـ»اسمه أحمد وظله النار» التوظيف المدروس للأشياء بحيث جاءت دلالتها وفقا لمستجدات الكتابة، وما أريد للكتابة تحقيقه، على سبيل المثال: وظف المطرود (النار) بأبعادها الداخلية والخارجية، المرئية والحسية، فهو يحمل هاجس النار في قلبه وفي صمته، حتى بات يراها في وجوه يعرفها ولا يعرفها، فثمة نار صارت تشكله وتؤثث ذكرياته الجديدة، النار تصبح ماضياً إذا ما استحالت رمادا هناك حيث يموت الأهل فرادى وجماعات. للنار معنى الخراب والدمار ومجاز الدخان، للنار شساعة القبح واستحالة الحياة. لسائل أن يسأل لم اختار محمد المطرود (أحمد) بدلا عن إبراهيم مثلا؟ هنا نعود لدلالة النار، هذه التي مازالت تأكل قلبه وروحه في إحالة على أنه لم ينج نجاة كاملة، بل عبر كسيحا بجسد عاجز وقلب متفحم، المطرود ينسج السجادات لكنه لا يصلي يحملك هذا القول على الظن بأنه قانط من رحمة الله، ويعتبر أن الصلاة بقلب واهن لا تحقق وطنا آخر خلف الحدود وكأن الله الذي كان يصلي له قد خذله، خذل السوريين جميعا، ولذا هو مكتف بنسج سجادات الوهم والأحلام ممارساً صلاته الأخرى الأكثر عمقا وصفاء، صلاة الماء حيث يحفر له أحمد مجرى في يد أمه الممدودة له من الضفة الأخرى.
المطرود في عمله استثمرَ الرؤى السديمية لسيوران بحنكة بالغة حيث خضنا معه مخاض العبور وجرح اللجوء ومرارة الحنين إلى الوطن، لينقل بعد ذلك للاستشهاد قولاً لشيخ الإشراق (السهروردي) في محاولة لاقتناص النور الأعلى نور الأنوار آملاً الخلاص من ظلمة أطبقت بأخشبيها على روحه تحدوه في رحلته تلك رغبة مريد مشتاق يبتهل للعلى وللمثال، متخيلا نفسه يوسف يصيب عرشا بعد أن كاد له البشر. إنّه حلم العودة الذي يراوده دائما غير أنه أثناء رحلة بحثه عن النور يصطدم المطرود بحقيقة ذاك الشروق الذي لا يبدل في حياة السوري شيئا، السوري الذي لا يستمرئ شمساً تشرق عليه وهو مخضب بالدم ليعتبر ذلك النور قاصراً أو من سقط الحكمة ليسمو بحكمة أعظم وهي حكمة الشعر.
المصدر: القدس العربي