الأخوان «محمد واحمد سليم فليفل» اللذان صنعا أحلى الأناشيد الوطنية

الجسرة الثقافية الالكترونية

*عبدالله المدني

من المواد التي اختفت من مناهجنا الدراسية مادة النشيد، التي كانت تـُدّرس في المرحلة الابتدائية، وكان الغرض منها تلقين الطالب مختارات من الأناشيد العربية المـُلهبة للحماس، أو الباعثة على الاعتزاز بالوطن وترابه وسيادته وقيمه، حيث كان المدرس يختار لطلبته عددا من الأناشيد الحماسية ويطلب منهم حفظها عن ظهر قلب، وترديدها وفق إيقاعات موسيقية منظمة وجميلة.
ومن رحم هذه المادة خرجت فرق الاناشيد المدرسية التي كانت تصدح في المناسبات المدرسية السنوية، أو في المناسبات الخاصة، أو أثناء طوابير الصباح قبل دخول الطلبة إلى صفوفهم بأجمل الاناشيد بمصاحبة فرقة موسيقى الكشافة، فتثير في الأنفس قيم العزة والكرامة، وتزرع فيها حب الوطنين الصغير والكبير، وتبشرها بالحرية والوحدة والنهضة والريادة.
ومن بين الأناشيد التي حفظناها ورددناها زمنا في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، ومازالت محفورة في نفوسنا وعقولنا لا تفارقها رغم تقادم السنين نشيد «موطني» من نظم إبراهيم طوقان وألحان الأخوين فليفل»، الذي يقول مطلعه:

موطني .. موطني ..
السناء والبهاء والجلال والجمال .. في رباك
والهناء والرجاء والحياة والنجاة .. في هواك
هل أراك.. غانما مكرما.. وسالما منعما
تبلغ السماء.. في علاك.. هل أراك

والمعروف أن هذا النشيد اختير منذ ظهوره في عام 1934 نشيدا رسميا لفلسطين، ثم تم اعتماده نشيدا فدائيا إبان الثورة الفلسطينية في الستينات، وأخيرا صار نشيدا وطنيا لعراق ما بعد سقوط صدام حسين، حيث حل مكان نشيد أرض الرافدين لشفيق الكمالي.
وأثناء وبعد العدوان الثلاثي على بورسعيد في عام 1956، شاع على نطاق واسع نشيد أثير ظل الناس يرددونه طويلا هو نشيد «الله أكبر» من أداء المجموعة وكلمات عبدالله شمس الدين وألحان الموسيقار محمود الشريف. ومن كلمات هذا النشيد، الذي اتخذه نظام معمر القذافي نشيدا وطنيا لليبيا منذ قيامه في عام 1969 وحتى سقوطه في عام 2011:

الله أكبر الله أكبر
الله أكبر فوق كيد المعتدي
والله للمظلوم خير مؤيد
أنا باليقين وبالسلاح سأفتدي
بلدي ونور الحق يسطع في يدي
قولوا معي قولوا معي
الله الله الله أكبر
الله فوق المعتدي
وكان ضمن الأناشيد المقررة على الطلبة بصفة دائمة نشيد «بلاد العرب أوطاني» الذي يتغنى بوحدة البلاد والشعوب العربية، وهو من كلمات فخري البارودي وألحان الأخوين فليفل، ويقول مطلعه:

بلادُ العُربِ أوطاني
منَ الشّـامِ لبغدان
ومن نجدٍ إلى يَمَـنٍ
إلى مِصـرَ فتطوانِ
فلا حد يباعدنا
ولا دين يفرقنا
لسان الضاد يجمعنا
بغسان وعدنـان
لنا مدنية سلفت سنحييها وإن دثرت
ولو في وجهنا وقفت دهاة الإنس والجان
فهبوا يا بني قومي إلى العلياء بالعلم
وغنوا يا بني أمي بلاد العرب أوطاني

والأخوان فليفل قاما أيضا بتلحين نشيدين أثيرين سكنا أفئدة الملايين من العرب، أولهما نشيد «حماة الديار» من كلمات الشاعر السوري خليل مردم بك، وهو نشيد تم تبنيه في عام 1946 نشيدا وطنيا رسميا لسوريا، وظل كذلك حتى انضمام سوريا إلى مصر في الجمهورية العربية المتحدة عام 1958 حينما تم استبداله بنشيد رسمي آخر، لكنه عاد نشيدا رسميا للجمهورية العربية السورية بعد الانفصال عام 1961. ومن كلمات هذا النشيد:

حماة الديار عليكم سلام
أبت أن تذل النفوس الكرام
عرين العروبة وعرش الشموس
بيت حرام حمى لا يضام
ربوع الشام بعالي السماء
تـُحاكى بروج العلا السنا
فأرض زهت بالشموس الوضـــا
سماء لعمرك أو كالسما
رفيف الأماني وخفــق الفؤاد
على علم ضم شمل البلاد

أما النشيد الثاني فهو «عليك مني السلام» وهو نشيد اقترن بثورة تحرير الجزائر وحفظه وردده ملايين العرب إبان سنوات هذه الثورة في الخمسينات وأوائل الستينات، وهو من نظم الشاعر ابن باديس الجزائري، وتقول كلماته:

عليك مني السلام يا أرض أجدادي
ففيك طاب المقام وطاب إنشادي
عشقت فيك السمر وبهجة النادي
عشقت ضوء القمر والكوكب الهادي
والليل لما اعتكر والنهر والوادي
والفجر لما انتشر في أرض أجدادي
أهوى عيون العسل أهوى سواقيها
أهوى ثلوج الجبل ذابت لآليهــــــــا
هذي مجاري الأمل سبحان مجريها
ذابت كدمع المقل في أرض أجدادي

ولا ننسى في هذا السياق نشيدا آخر لحنه الأخوان فليفل من كلمات الأخطل الصغير (بشارة الخوري) ألا وهو نشيد «نحن الشباب» الذي تقول كلماته:

نحن الشباب لنا الغد .. ومجده المخلد
شعارنا على الزمن .. عاش الوطن
بعنا له يوم المحن .. أرواحنا بلا ثمن
يا وطني عداك ذم .. مثلك من يرعى الذمم
علمتنا كيف الشمم .. وكيف يظفر الألم
السفح والجداول .. والحقل والسنابل
وما بنى الأوائل .. نحن له معاقل
الدين في قلوبنا .. والنور في عيوننا
والحق في يميننا .. والغار في جبيننا
لنا العراق والشآم والقدس والبيت الحرام
نمشي على الموت الزؤام إلى الأمام إلى الأمام
نبني ولا نتكل .. نفنى ولا ننخذل
لنا يد والعمل .. لنا غد والأمل
نحن الشباب .. نحن الشباب

لكن من هما الأخوان فليفل اللذان ارتبط اسماهما بكل الأناشيد الخالدة سالفة الذكر، وغيرها كثير مثل «في سبيل المجد» لشبلي الملاط، و»إنّ لبنان لنا» للشاعر جورج غريب، ونشيد جامعة الدول العربية للشاعر محمد محمد مجذوب، وما هي الظروف التي بزغ فيها نجمهما وشهدت ولادة دورهما العظيم في مواكبة الشعوب العربية واستنهاضها نحو الحرية والاستقلال؟
الأخوان فليفل هما محمد المولود عام 1899 وأحمد المولود عام 1906، وكانت ولادتهما في حي الأشرفية لعائلة بيروتية معروفة بإرثها الموسيقي والغنائي، لذا لم يكن غريبا أن يتأثرا منذ الصغر بصوت والدتهما وبجدهما وبخالهما عازف العود البارع عبدالغني صبرا.
من بعد أن درسا القرآن في كــُتاب الشيخ مصباح دعبول في حي آل بيضون قرب جامع الأشرفية، التحقا بمدارس جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية، ثم دخلا دار المعلمين التركية، حيث تعلما العزف على بعض الآلات وعرفا كتابة النوتة الموسيقية، الأمر الذي فتح أمامهما أبواب العمل كمدرسين لمادتي الموسيقى والرياضة في مدرسة «حوض الولاية». وطبقا لبحث كتبه عنهما الباحث محمد كريم ونـُشر في كتاب أصدرته جمعية «عرب» اللبنانية للموسيقى تحت عنوان «اللحن الثائر»، فإن الأخوين فليفل كان لهما دور كبير في تأسيس فرقة «الأفراح الوطنية» أولا، ثم فرقة موسيقى قوى الأمن الداخلي (الدرك اللبناني سابقا) عام 1943، ناهيك عن جهودهما المشهوده في وضع العديد من المارشات والمعزوفات العسكرية للجيش اللبناني.
كما لعب الأخوان محمد وأحمد سليم فليفل دورا لا يمكن انكاره في إدخال الأناشيد إلى المناهج التعليمية، مما أسهم في ترقية أذواق النشأ الجديد وترسيخ المفاهيم الأخلاقية والوطنية لديهم، خصوصا وأنهما ظهرا في مرحلة كانت فيها بلاد الشام تشهد غليانا سياسيا، ونعني بها المرحلة ما بين زوال الاحتلال العثماني وبداية الانتداب الفرنسي، وما رافق تلك المرحلة من سعي الشعوب العربية إلى الحرية والاستقلال، والتمرد على كل ما هو عثماني، ومن بينها أناشيد المديح في السلطان عبدالحميد ودولته. وبسبب دورهما وجهودهما الاستنهاضية من خلال صناعة ونشر الأناشيد الوطنية تعرض الرجلان إلى الكثير من المصاعب في حياتهما على يد سلطات الانتداب الفرنسي، التي لم تكتف بفصلهما من وظيفتيهما، بل رفضت أيضا اشتراكهما في مسابقة أعلنت عنها الحكومة السورية لتلحين قصيدة «حماة الديار» عام 1938. وهو ما دفع الأخوان إلى اللجوء إلى رئيس مجلس النواب السوري الزعيم الوطني المرحوم فارس الخوري للشكوى، فوعدهما الأخير بالتريث وحثهما في الوقت نفسه على نشر اللحن على أوسع نطاق. وهكذا ما أنْ حصلت سوريا على استقلالها عام 1946 حتى كانت قصيدة «حماة الديار» بلحن الأخوين فليفل منتشرة بين الجماهير، فأعلنها فارس الخوري نشيدا وطنيا رسميا لسوريا المستقلة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى