الأدب المحلي الفلسطيني في إسرائيل وغياب «البلاغة الرقمية»

الجسرة الثقافية الالكترونية

*ايمان يونس

المصدر /القدس العربي

تتناول هذه المقالة موضوع البلاغة الرقمية وغيابها عن الأدب العربي الفلسطيني في إسرائيل، والوقوف على أسباب هذا الغياب، ثم تعليله في ضوء المناخ الثقافي والسوسيو أدبي العام. فلو ألقينا نظرة على ما يجري في الساحة الأدبية في السنوات العشر الأخيرة، نجد أن العالم الغربي يحث خطاه بتسارع نحو الكتابة الإبداعية الرقمية، ويحاول امتلاك أدوات البلاغة الرقمية والنقد الرقمي وتوظيفها في خدمة النص الأدبي؛ وكذا يحاول العالم العربي جاهدًا أن يلحق بهذا الركب المنطلق، وإن كان ذلك بتحفظ وببطء شديدين. كل هذا، في الوقت الذي يقف فيه أدبنا المحليّ في عزلة تامة عن الموضوع، بحيث نجده بعيدا كل البعد عن الساحة الأدبية الرقمية، مما يدفعنا إلى تسليط الضوء على هذه الثغرة بالذات في أدبنا المحلي والكشف عن أسبابها.
من البلاغة الكلاسيكية إلى البلاغة الرقمية:
يُعدّ أرسطو المؤسس الحقيقي للبلاغة الكلاسيكية، وبموجبه فإن البلاغة فنّ خطابيّ بامتياز، يستخدم فيه الكاتب أدوات حجاجية واستدلالية ومنطقية للتأثير في الآخر وإقناعه ذهنيّا ووجدانيّا. أما مصطلح «البلاغة الجديدة» فقد تبلور على يد الفيلسوف البلجيكي شايم بيرلمان في منتصف القرن العشرين، حيث وسع بيرلمان مفهوم البلاغة بمعناه الكلاسيكي ليستوعب وصف قواعد الخطابات والأجناس الأدبية، وتصنيف الصور البلاغية والمحسنات البديعية وتبيان وظائفها في ضوء مناهج معاصرة لسانية وبنيوية وسيميائية وشعرية. من الجدير ذكره هنا هو أن جميع الدراسات والاتجاهات النقدية التي حاولت تحديد وبناء النَّسق البلاغيِّ للخطاب الأدبي قد تعاملت مع نصوص قوامها الكلمات، لأن النص الرقمي لم يكن موجودا آنذاك.
ولكن، بعد ظهور النص الرقمي الجديد في أواخر القرن المنصرم، انفتح باب الإبداع الأدبي على نحو غير مسبوق لينفتح معه علم البلاغة على آفاق جديدة أدت إلى نشوء بلاغة ثالثة-إذا صح التعبير- هي البلاغة الرقمية.
أدى استخدام التقنيات التكنولوجية في الكتابة الإبداعية إلى قلب الكثير من المصطلحات والمفاهيم المتعارف عليها في النظريات والاتجاهات النقدية الحديثة، ومن بينها مفهوم البلاغة الأسلوبية. فإذا كانت البلاغة الأسلوبية للنص الأدبي تقاس بقدرة الكاتب على توظيف الكلمة لتوليد المعاني والأفكار والصور الفنية، وكذلك بقدرته على الإقناع والحجاج؛ أصبحت اليوم تقاس وفق معايير أخرى وآليات مستجدة. فلم يعد الكاتب يكتب بالكلمة فقط، بل أصبح بإمكانه أن يتوسل بوسائل أخرى للتعبير. فيوظف اللون كرمز، والحركة كمعنى، والموسيقى كإيحاء، والصورة ككناية. وأصبح بمقدوره أن يُضَمّن نصه بعض الروابط فيجعل منه لوحة فسيفسائية تتداخل وتتشابك فيها نصوص كثيرة، وهو ما بات يعرف اليوم بـ «الهايبريدتكست» (Hybridtext) أي النص «الجامع للأجناس». وقد ذهب بعض النقاد إلى أبعد من ذلك فأطلقوا عليه اسم ((Archiart أي النص «الجامع للفنون» حيث تتضافر فيه كافة أنواع الفنون.
هذه التغييرات صحبت معها تغييرات كثيرة تتعلق بالمتلقي، فالقارئ لا يتلقى الكلمة فحسب، فهناك الصور والألوان والموسيقى، وعليه الربط بين مختلف النوافذ التي تُفتح أمامه، ثم الولوج إلى العلاقة بين هذه النوافذ جميعًا، والكشف عن روابطها وأبعادها الدلالية والرمزية، التي تفترض معرفة جيدة بسيمياء الألوان والأشكال في تعالقاتها الرمزية والفلسفية.

غياب البلاغة الرقمية عن الأدب المحلي

اذا كان الأدب الرقمي هو الأدب المعبّر عن هذا العصر في كافة تحولاته وتطوراته، وهو التجلي الثقافي للعصر الرقمي الذي نعيش، فأين مكانة العقل العربي في هذا العصر؟ وهل الأدباء العرب يعيشون الحداثة تنظيرًا فقط؟ وأين أدبنا المحلي من كل هذا؟ ولماذا لم ينخرط أدباؤنا المحليون في الرقمية بعد؟
أظن أن لهذا علاقة بمدى انخراطنا في حالة التطور بشكل عام، ومدى توفرنا على مناخ يسمح بمثل هذا الإبداع، وهو أمر يتعلق بالذهنية العربية ومدى انفتاحها على تقبل المستجدات. كما يتعلق أيضا بوضعية النقد الأدبي وقدرته على متابعة تطورات حالة النص الأدبي عالميا. فالأدب الرقمي هو أدب حديث النشوء نسبيًّا، غربي الأصل ولا يتجاوز عمره الأربعة عقود، لذا فكثير من الأدباء العرب لم ينكشفوا على هذه الظاهرة الأدبية الجديدة، ولم تسنح لهم الفرصة بعد لقراءة نصوص أدبية رقمية، كما أن الدراسات التنظيرية العربية في هذا المجال قليلة جدا، ناهيك عن عدم تدريسه في الكليات والجامعات.
أضف إلى ذلك أن الكثير من المفاهيم والمصطلحات المتعلقة بالأدب الرقمي ما تزال ملتبسة بعض الشيء، لكونها حديثة العهد وتحتاج إلى تأملات نقدية متأنية، تبلور لمأسسة هذا الأدب وفق مستجدات النصوص المنجزة رقميًا، وهو أمر يحتاج إلى الكثير من الوقت خاصة في الأدب العربي الذي يعاني من ضعف التراكم (من حيث الكم).
ومن التحديات التي تواجه كتابنا العرب أيضا، عدم قدرتهم على مواكبة التطورات التكنولوجية، وبالتالي عدم تمكنهم من استخدامها، وهذا ما يعرف بـ«أمية الحاسوب». فبعض الكتّاب لا يتقنون استعمال التكنولوجيا، ولا يجيدون التعامل مع الحاسوب وبرمجياته المختلفة، ناهيك عن عامل الخوف.
من هنا، فليس غريبًا إذن أن يواجه الأدب الرقمي في بداياته الهجوم نفسه والتصدي نفسه والرفض نفسه، لدرجة جعلت بعض المتعصبين للقلم والورقة يشونون هجومًا حادًّا على الأدب الرقمي، مدعين أن الكلمة هي العمود الفقري للنص الأدبي وأن الوسائط المتعددة تؤدي إلى تراجع القيمة الفنية للنص وتفقده الكثير من غوايته. ولكنا نرد على هؤلاء النقاد بالقول إنه لا شك بأن الكلمة تبقى هي الأساس في كل عمل أدبي، لكن المؤثرات الأخرى إذا ما أحسن الكتاب توظيفها بحيث تخدم النص معنى ودلالة، يمكنها في هذه الحالة أن تثري النص، وتحمله المزيد من الشحنات الدلالية وتجعله أكثر كثافة وخصوبة وحيوية.
ولعل إحباط المجددين العرب وتصديهم للأدب الرقمي وترددهم في الإقبال عليه، يكمن في ما يكمن أيضا في مفهومهم لعملية التجديد هاته، التي يرون فيها تهديدًا لتراثهم وعاداتهم التي ورثوها أبًّا عن جد. لكني أريد أن ألفت انتباه مثل هؤلاء المحافظين على التراث إلى أن مفهوم التجديد لا يمكن أن يكون هدمًا للتراث والبناء على أنقاضه، فالجديد لا يلغي القديم بل يحتفظ كلٌ بأصالته ويمكن أن يسيرا جنبًا إلى جنب من دون أن يلغي أحدهما الآخر.
وأخيرا، بقي أن أشير إلى عقبة أخيرة تحول من دون تذويت مفهوم الأدب الرقمي عربيا، وهي محدودية الانفتاح الذهني لدى بعض المبدعين العرب، ذلك لان تقبل الأدب الرقمي يعني تقبل تغيير الكثير من المفاهيم المتعلقة بالعملية الإبداعية، وهذا ليس بالأمر البسيط، لأنه يتطلب منا أن نتخلى عن أفكار كثيرة ترسخت لدينا منذ زمن، أهمها: ارتباط النص بمنتجه حصرا، فالكاتب الرقمي ليس المالك الوحيد للنص كما بينا، بل تعمل إلى جانبه كوكبة من المبرمجين والخبراء وربما الفنانين. كذلك فالأدب الرقمي يعني أيضا التخلي عن ارتباط الموهبة بالكلمة المطبوعة بصورة ديوان شعر أو رواية. والأدب الرقمي يعني بالإضافة إلى ذلك تقبل فكرة أن يشارك القارئ في إنتاج النص ويتفاعل معه بأشكال مختلفة. وعليه، فإن كسر هذه الثوابت يعتبر بمثابة الخروج عما وجدنا عليه آباءنا، وهذا يحتاج إلى ثورة تصل حد التمرد، قد يفقدها الكثير من المبدعين لعدم جاهزية الذهنية العربية بعد.
من هنا، ليس غريبًا أن يواجه هذا الأدب بالتحفظ الذي قد يصل حد الرفض أيضا من قبل أدبائنا ومفكرينا، الذين لا يوجد لديهم الاستعداد الذهني للتفكير بطرائق أخرى تنفتح على التعددية والمشاركة والانفتاح. لكن الوضع الراهن يشير إلى أننا شئنا أم أبينا فنحن سنسير باتجاه التقنية، ونحن مطالبون أن نكتب بأدوات العصر وأن نعبّر عن إنسان هذا العصر في كينونته التكنولوجية، لذا فالتفكير في الإبداع الرقمي هو تفكير في مستوى من مستويات الحداثة، ولكن يبقى السؤال: كم من الوقت سيلزمنا حتى يصبح الأدب الرقمي جزءا من ثقافتنا؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى