الأدب والفن وعلاقتهما بالواقع: من التشخيص إلى الانعكاس… أزمة خيال أم تخييل!

الجسرة الثقافية الالكترونية

*زهور كرام

 

عندما نعود إلى التحديدات المفهومية للأدب والفن في علاقتهما بالواقع، سنجدها تحديدات متعددة، وتختلف بحسب الوظائف المطلوبة منهما. لكنه تعدد يلتقي في فكرة تكاد تكون حاضرة مع كل التحديدات، أو مُوحدة لكل التعريفات، مهما اختلفت الحقب التاريخية، وتغيرت أهداف الأدب والفن، وتحول ذوق القراء واختياراتهم. يتعلق الأمر بضرورة تحقيق الأدب/الفن متعة لدى القارئ/المشاهد. تنبني المُتعة على القيمة الجمالية والفنية والمعرفية للعمل. وعليه، فإن تعاقدا ضمنيا، بات يؤطر علاقة الأدب/الفن بالقارئ/المشاهد، ويعتمده القارئ في حكمه/إحساسه على العمل الإبداعي. تشكل هذا التعاقد من تاريخ ممارسة الكتابة الإبداعية وقراءتها. 

مهما تعددت مناهج قراءة الإبداع، واختلفت في ما بينها في سبل القراءة والتحليل، فإن طلب المُتعة يظل حقا مشروعا، وجب تأمينه للقارئ، بموجب شرعية الإبداع في حياة الإنسان ووجدانه. وذلك، راجع لكون طلب المتعة يُلغي الاحتكام للخطابات التي قد تُربك لذة النص.

فطلب المتعة لا ينشغل بالأيديولوجيات السياسية، والمواقف الاجتماعية، والمظاهر التاريخية التي قد تُقيم في النص، كما لا تهتم رغبة المُتعة بنوايا الكاتب، ومقاصده، لأن ذلك من شأنه أن يجعل تحقق المتعة يتعثر عند عتباتها، لهذا، تحدث بارت عن «موت المؤلف».

تصبح المُتعة بهذا التوصيف مسؤولية وظيفية، لكونها تضمن تحقيق الفعل التواصلي الأول بين العمل وقارئه، وهذا يفترض من كل نص مُنتج للمتعة واللذة، نصا مكتوبا بطريقة اللذة والمتعة، كما يرى رولان بارت في كتابه» لذة النص»(1973). فالمُتعة حصيلة كتابة بمتعة ولذة، وليست شيئا خارج سؤال الكتابة. كما أن المُتعة ليست مسألة فردية، خاصة، تتحقق لدى البعض، وتنفلت من الآخر، أو يطلبها البعض، ولا ينشغل بها البعض الآخر، ولكنها إمكانية جمالية – فنية تُحققها الأعمال التي تُكتب بمتعة، وتُحفز القارئ على طلبها. يلتقي في طلب المتعة كل القراء، وإن اختلفت مستويات تلقيهم للعمل، أو تفاوتت حاجتهم للأدب والفن. وقد يعزَز تحقيق النص/العمل للمُتعة في بعض مراحله – إبداعية العمل، ويساهم في تقريب المسافة بين العمل ومتلقيه.

من دون أن يعني هذا، ضبابية المُتعة، وخضوعها لتأويلات مبهمة، بقدر ما يُقصد بها، هذا الإحساس الجمالي – الفني الذي يفرضه العمل على قارئه/مُشاهده. وكلما كان النص مكتوبا بمتعة، وصل بالمتعة نفسها- إن لم يكن بالدرجة نفسها- إلى متلقيه. عندما نلتقي في تاريخ الأفكار والمعرفة، بالحديث عن العلاقة بين الإبداع والوجدان، فذلك لأن الإبداع يُخصب الوجدان بامتلاء جمالي.

يقف وراء التذكير بأفق المتعة الذي ينتظره القارئ، وتُحققه الأعمال التي تُكتب بمتعة، واقع النقاشات التي تُطرح اليوم بشدة في المشهد العربي، سواء على مستوى الكتابة الروائية، أو الأعمال الدرامية الفنية، التي تثير- من جديد- سؤال علاقة العمل الإبداعي والفني بالواقع، وهل الإبداع مجرد انعكاس مباشر للواقع، أم حالة تتجاوز المُباشر، لتكتب المحتمل.

انقسم النقاش إلى فريقين، أحدهما ينتصر لمفهوم الانعكاس للواقع، وتصور الإبداع – المرآة، وتأييد فكرة الفن/الإبداع باعتباره واجهة تعكس ما يدور في الواقع، أحداثا ولغة ومستويات تعبيرية، وشروط حياة، ثم فريق يتشبث بمفهوم الإبداع باعتباره تشخيصا للواقع، وليس انعكاسا له، ويدافع عن مفهوم التشخيص للواقع، ويقف ضد فكرة نقل الواقع كما هو بملفوظات أناسه، ولغة فئاته الاجتماعية، وسلوكات أفراده، ومنطق معاملات مجتمعه، وهو الرأي الذي يعتمد الإبداع/الفن باعتباره تجليا رمزيا للواقع، وليس تقريرا مباشرا عنه.

ظهرت هذه النقاشات – بقوة – مع حدثين/ زمنين، من جهة مع مرحلة ما اصطلح عليه بـAالربيع العربي»، وظهور روايات تحكي «الربيع» بشكل مباشر، وتأبى شخصياتها أن تتخلى عن شرطها الواقعي، وتحتفظ لغاتها بمنطقها اليومي التواصلي، خارج منطق الإيحاء والانزياح، ويُطل فيها المؤلف برأيه وسط كلام الشخصيات، وأحيانا، نلتقي به، وهو يُسيَر الأحداث، ويتحكم في قراراتها، ويجعل الرواية مكانا مُباحا للتنظير للربيع العربي، أو إعلان الموقف منه، وسمح هذا النوع من الروايات بعودة ظهور رواية «الأطروحة» ، تلك التي تنطلق من أطروحة جاهزة، وقائمة خارج المجال النصي، ويسعى السرد لإعادة حكيها، ثم ما يحدث مع رمضان، واحتدام النقاش إعلاميا حول طبيعة المسلسلات الدرامية، التي تفيض بها الفضائيات العربية، والتساؤل عن المفهوم الذي تطرحه عن علاقة الفن بالواقع، من خلال الانتصار لفكرة الانعكاس.

ولعل أهم مظهر تجسد فيه هذا السؤال، وظهر فيه الاختلاف، هو اللغة المحكية في الأعمال الدرامية، لكونها تأتي عارية من كل إيحاء يفرضه الإبداع، ولا تُحقق انزياحا عن لغة الواقع، بل تصر على نقل كلام الشخوص في الواقع، وجعله كلاما مباشرا لشخصيات الأعمال الدرامية.

وإذا كان النقاش ما يزال- إلى حد ما- ينتصر لمفهوم التشخيص في العلاقة بين الإبداع والواقع، بالنسبة للكتابة الروائية، حتى وإن خرجت بعض الأعمال عن هذا الرهان، وانضمت لفكرة النقل/الانعكاس، فإننا نرى احتدام النقاش بقوة – في مجال الدراما التلفزيونية، وقد يعود ذلك، إلى كون المُشاهد يجد نفسه أمام واقعه، بدون مسافة، ويلتقي بتعبيرات مجتمعه، ولغات شارعه، فيقترب منه سؤال، «ثم، ماذا بعد ذلك؟».

تدعو هذه الوضعية من خلال هذه النقاشات، إلى طرح مجموعة من الأسئلة حول واقع الممارسة الإبداعية في المشهد العربي، وعلاقتها بمستويين مهمين، بدون حُسن تصريفهما يتعثر الإبداع، ويتحول إلى واجهة تقريرية عن الواقع. وهما الخيال والتخييل.

فهل تعود هيمنة تصور «الانعكاس» إلى ضعف الخيال، باعتباره النبع الذي يُخصب المادة الحكائية؟ وهل بات منتج هذه الأعمال يفتقد إلى ثقافة التخييل، وتحويل المادة إلى عنصر مُتخيَل، بواسطة آليات وأساليب وصيغ في الكتابة؟ هل هيمنة هذا النموذج من الكتابة عبارة عن مؤشر بمثابة تحذير عن بداية تلاشي نبع الإبداع/الخيال؟ أم أن حدة الواقع العربي وعنفه، وتحولاته البنيوية جعله يتجاوز الخيال، ويفرض منطقه من أجل تحويله بشكل مباشر إلى حالة إبداعية؟ هل الواقع بات خياليا أكثر من الخيال؟ هل يمكن الحديث عن تراجع ثقافة الخيال كما تم تأصيلها في «ألف ليلة وليلة؟ أم هو تصور جديد للإبداع باعتباره صدى لما يرغب فيه متلقيه، والمتلقي يحب أن يرى نفسه، كما هو في الإبداع أدبا وفنا؟ هل الخلل في تراجع الخيال نبعا للحكي؟ أم في الواقع الذي لم يعد إقامة ممكنة للإنسان العربي بغرائبيته وعجائبيته، بنظامه المرتبك وتوتراته وتناقضاته، بفوضى أحداثه والتباسها؟ أم الأمر يتعلق بتصور جديد للمبدع/الكاتب، باعتباره صوتا حرا في طريقة تناوله للمادة المحكية، خارج شرط التعاقد مع القارئ والمشاهد، مادام أمام هذا الأخير إمكانيات وخيارات تجعله يختار ما ينسجم وتصوره للإبداع؟ إذا كان الأمر كذلك، من الذي يتحكم في إضفاء الشرعية على مثل هذه التصورات؟ تلك مجموعة من الأسئلة التي نقترح التفكير فيها، من أجل تجاوز حدة النقاش الدائر حاليا حول الأعمال الدرامية العربية، وبعض النصوص الروائية التي تحكي «الهزات العربية» موضوعا محكيا، بطريقة تقريرية ومباشرة.

قد يبدو الأمر بالنسبة للبعض، مجرد اختلاف في طريقة التعامل مع الواقع، ولكن الأمر أبعد من ذلك، لكونه يطرح تصورات جديدة حول معنى الممارسة الإبداعية أدبا وفنا، والتساؤل عن طبيعة رؤيتها للعالم والواقع، وهل تعكس عودة الانعكاس، وخفوت التشخيص في بعض الأعمال الأدبية والفنية أزمة في الخيال، وخللا في التخييل.

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى