الأفغاني خالد حسيني يرصد «سيرة الألم» في أعماله

غمكين مراد

ما تخلفهُ الحروب المتتالية في الناجيِّ منها، أيّا كانت طريقة أو ظرف نجاتهِ للبقاء حيّا حاملا حياتين:
خارجية: تتهادى بخوفٍ قُرب جدارها.
وأخرى داخلية: يجَسِدُّها جرحٌ نازفٌ باستمرار، وهي جوهرٌ مخفيٌّ عن الخارج المُعاش.
وبصورةٍ ما، حين يتحولُ الدمُ النازف إلى لون الحبِّر المُحَمَّل على بياضِ الورقة ألما يتعرَّف عليه من يُهادن الحياة الخارجية، ألما منهُ كسوادٍ داخلي لا يلتئم إلّا في شراكة البياض، وإن كان لابُدَّ من كتابة سيّرة هذا الألم لابدَّ أيضا من شراكة في المصير، تغوصُّ في بحرهِ متكاملةٍ:
الآهاتُ من جهة والإنصاتُ من جهة أخرى وبالعكس.
شركاء هذا المصير بدمِ الداخل ودمعِ الخارج إنما يُجهِّزون قلبا مُملحا حين المزج، يتآكل رويدا رويدا في عتمة الوجعِ الثقيل كبحرٍ يُجانب يابسة المُعاش، متحولا هذا المصير إلى كلماتٍ أو قصةٍ مُسماةٍ بعددٍ قليلٍ من الأشخاص، هم جَبَّلةُ ذاتِ الكاتب نفسها، يسيرون كسُفراء لوطنٍ لا يحملُ أبناؤهُ سوى ذاكَ الهواء الخاص بجنون الألم وذكراه.
هذا دأبُّ خالد حسيني في سيّرة ألمهِ المدوَّنةِ في روايتيه «الألف شمسٍ مُشرقة» و«عدَّاء الطائرة الورقية»، حيث تحوَّل إلى سفيرِ الوجع بحبّر دمهِ النازف من داخلهِ الجريح في الحرب حين لم تأخذهُ!

«الألف شمس مشرقة»

هي روايةُ ليلى ومريم، ضُرَّتان، شريكتا مساحةِ الآهات والحسرات والضربات من أفغانستان، تاريخان مدوَّنان بالزمن الحقّ في أدوار القتلِ والنهب والدمار بدءا من السوفييت (الروس) الدولة إلى الميليشيات المرتزقة مرورا بطالبان المُنَّظمة وليس انتهاء برشيد الزوج.

«عدّاء الطائرة الورقية»

رواية التّداعي الحرّ لأميرْ عن شريكهِ (أخيه) حسان، تُستَّردُ من خلالهِ الحياة برُمتها ليهيئ الحدث والحياة المُعاشة، والمتأسسةِ على تداركِ الندمِ بتكرار الحياة اللائقة لما يجب أن يكون، في معمعة كُلّ حاملي الحرب والدمار المذكورين في «الألف شمس مشرقة» فيما عدا رشيد مُستبدلا بوالدِ أميرْ في جعلهِ سرّ (أخوة) أميرْ وحسان سوطَ الحياة الداخلي!

«الألف شمس مشرقة»

هي قصة أفغانية حيث «كلّ قصةٍ أفغانية مرسومةٌ بالموت والخسارة والحزن الذي لا يُتصوَّر».
قصةُ طفولةٍ منفيةٍ لمريم (بنت الحرام) وطفولةٍ قائمةٍ على الطموحات الكبيرة لليلى، مريم وليلى تلتقيان عند الزوج رشيد تعيشان ضُرّتين، مريم تُعدَّم لتنجو ليلى، هكذا تُولَّدُ مريم ابنة الزنا من جديد شرعيا: «لكن أكثر شيء، مريم في قلب ليلى، حيث تَسطعُ مع بزوغِ ألف شمس مشرقة».

«عدّاء الطائرة الورقية»

هي قصةٌ أفغانية أيضا بين أميرْ الباشتوني السُّني وحسان الهازاري الشيعي، يُعدَّم حسان لأنه هازاري وينجو أميرْ ليبقَ ابن حسان طوقَ نجاةٍ لندمهِ، بعدما كانا شريكي الدار نفسِها وبالمستوى نفسه رغم اسم الخادمِ على حسان لأميرْ، لأنّ سرُّهما المدفون في كبدِ والدِ أميرْ بإخوتهما التي تُعلَّن في سيِّاق البحث عن سوهراب ابن حسان واستعادته من طالبان.
في الروايتين خالد حسيني يُعيد بعيدا من أفغانستان عُصارة ألمهِ الباقي نزيفا، حيث المكان شاشة والذكرياتُ شريطُها، تكامُلهما، يُعيد للوجوه الراحلة كلّ ما خُفيَّ عن طيفها أيّ الوجوه بحقيقتها لكلِّ ما حملتها من آسى ووجع.

«الألف شمس مشرقة»

هي رواية المرأة التي تُغيِّر الحربُ جيناتها مع النضج أيّا كان منبتُها وأيا كانت صورة الطفولة، سواء أكانت مأزومة كطفولةِ مريم، أو طموحةٍ كطفولةِ ليلى. هي روايةُ الحدَّث السردي حيث لا مفاجأة بالحبكة نوعا ما، فقط المفاجأة هي هذا الكم من الألم، هي رواية تُدَّمع العين بتحسس كلِّ أنفاس الكلمات الطائرةِ من بين أسطرها، حيث أن المرء لا يستطيع عدّ الآهات الخارجةِ من وجعِ الحرف فيها أو الصمت المُخبأ خلف جدران كلماتها، على غرار قصيدة وداع بابي لكابول المأخوذ منها عنوان الرواية:
«المرءُ لا يستطيع عدّ الأقمار المُشعة في سقوفها أو الألف شمس المشرقة…..تختبئ خلف جُدرانها».

«عدّاء الطائرة الورقية»

هي روايةُ الرجل الذي تقتلُ الحرب فيه، الرجولة، أيّا كانت مرتبةُ هذا الرجل وأيّا كانت معتقداتهُ وما كانت عليهِ طفولتهُ أيضا.
هي روايةُ البذرةِ بأنواعها: الخبيثة والبريئة إلى المُستغلةِ، والتي تتلظى جميعها بنيران الحرب، لكنها تُسقى بالماء اللازم لنوعها، من حيث أنّهُ آسنْ كما شخصية آصف ابن أحد الأكابر من وجهاء كابول الباشتونيين الذي يُضاجع حسان مع مائهِ البريء لبذرة البراءة أمام ضُعف وخوف واستغلال أميرْ صديق (أخ) حسان، والسبب أن حسان يَعدّو ببراءتهِ ووفائه وراء طائرة أميرْ الورقية.
آصف يتحوَّل إلى أميرٍ من أُمراء جماعةِ طالبان يُعيدُ كرَّة اللواط مع ابن حسان سوهراب، وحسان يُقتل بهازاريته وأما أميرْ فيتحوَّل إلى رجلٍ مقتولٍ بالندم على صمتهِ، في أمريكا التي وصلها. في الروايتين مُجتمَعان مُتكاملان من النساء والرجال، تُقوِّض هياكلهما، الحربُ الدائرةُ بكلِّ أشكالها المذكورة آنفا، وخالد حسيني ليس سوى الرائّي لعُصارة الألم المتبقيةِ ذاكرة منقوشة في فؤاده يصوُّغُ منها حِبّرا يبدو أنّهُ عايش الكثير من تفاصيلها، ويرسم لوحة المأساة على قماشٍ ليس سوى خريطة أفغانستان.

«الألف شمس مشرقة»

الشخصيتان المحوريتان فيها للمرأتين: ليلى ومريم، ويُضاف لهما سماءُ وأرضُ أفغانستان. مريم التي تتيحُ لها الحرب زوجا وفيا لحاملي الأسلحة، يَصبح أو يحدث أنّ بمقدورها أن تُحوِّل ضياعها ولقيطيتُها إلى مسؤوليةٍ لبقاء حياة ليلى وابنها زلماي.
ليلى الناجيةِ بتضحية مريم تلجأ إلى باكستان تُلاقي عشيق طفولتها وصِباها ووالد ابنتها الشرعي، طارق، لكنها لا تنسى أنّها عاشت الحرب التي أخذت منها أخويها ووالديها ورغما تُريد أن تعود، وتعودَ فعلا. لماذا؟ تخبر طارق زوجها القديم الجديد: «لقد غادرتَ عندما بدأ المُجاهدون بالقتال تَذكُر؟ أنا التي بقيت، أنا التي عرفتُ الحرب… لقد فقدتُ والديَّ في الحرب، أهلي، طارق، والآن، سماعُكَ تقولُ بأنّ هذه الحرب ليست بهذا السوء».
«…أين سنظل هنا طارق؟ إلى متى سنبقى؟ هذا ليس وطننا، كابول وطننا، هناك الكثير يحدث، الكثير منه جيد، أريد أن أكون جزءا من كلّ ما يحصل. أريد أن أقوم بشيءٍ ما، أريد أن أســــاهم، هل تفهمني». أمّا السماء، فعلى الرغم من الدخان والضباب وكلّ التلوث تبقى هي التي تحملُ كلَّ الأقمار والشموس غير المعدودة فوق كابول. أما بالنسبة للأرض فهي رغم كل ما شابها من خرابٍ ودمارٍ تبقى أرض الحنين، أرض الولادة، أرض الموت.

«عدّاء الطائرة الورقية»

الشخصية المحورية فيها هما أميرْ وحسان ثم طيفهُ المتبقي في ابنه سوهراب، يُضاف إليهم العِرق الطائفي المخبوء في جحور التاريخ القديم بين السنة والشيعة. أميرْ الناجيُّ من الحرب، والواصلُ إلى أمريكا دارا للجوء، رفقة والدهِ العليل والصــــامت، يعيش هناك مُســــتذكرا ما كان منهُ ومن حسان وما خَلفتهُ حادثة آصف مع حسان في مسابقة الطائرات الورقية، حيثُ لا قوانين فيها، وما يُعانيه من الندم موتا، تُتاح له الفرصة برسالةٍ من رحيم خان صديق والدهِ وكاتمِ أسرارهِ من باكستان، للتعرُّف على أخيه الشرعي حسان المقتول، وقصة ابنه سوهراب المخطوف، يُقرّر بعد تردّدٍ في إنقاذه، وبدافعٍ من ندمهِ عن ماضيه، في خوض كلّ الأخطار المُحدقَة في عهد طالبان، لإنقاذ سوهراب، مُستذكرا طأطأة رأسه أمام خادمهِ (أخيه) حسان حتى وهو على شكل طيفٍ. لماذا؟ لأنهُ يُردّد: «إلى اليوم أشعرُ بصعوبةٍ في النظر مباشرةٍ لأشخاصٍ كحسان، الأشخاص الذين يَعنُون كلَّ كلمةٍ يقولونها». «..هذا كان شيئا يخصُّ حسان، كان نقيا لدرجةٍ إلهية، دائما تَشعر أنكَ منافقٌ أمامهُ».
هذا كان صدى حشرجةِ طيف حسان في رحلة أميرْ الإنقاذية.
في الروايتين يُشرَّك خالد حسيني الماضي ليكون دافعا إلى الخلاص منهُ، بالقيام بمغامرةٍ أو عملٍ يُعيد ردّ الاعتبار فيما هو مُعاش: مريم في قتل رشيد لإنقاذ ليلى وزلماي في «الألف شمس مشرقة». أمير في المخاطرة بحياتهٍ مع طالبان وأميرِها آصف لإنقاذ سوهراب ابن حسان في «عدّاء الطائرة الورقية».
وهكذا لا يأبه خالد حسيني باستراتيجيات معينة تخصُّ كتابة الروايتين، بقدّر ما يكتب سيّرة الألم كمُخرجٍ لفيلمٍ سينمائيٍّ يلتقط حيثيات أبطالهِ في بحرِ ألمِهم وهربِهم وموتِهم ونجاتهم على كامل مساحة الوطن المتروك للخراب، مدفونا كجرحٍ داخليٍّ ينزفُ كلّ هذه الكلمات بكلّ الصوُّر المُعلقةِ على جدران القلب، وفي دمع المآقي المتحوِّل إلى حبّرٍ على الورق وكاميرا على الخيال المبثوث فيها.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى