الاختراق السردي لمنطق المؤسسة في «القوس والفراشة» لمحمد الأشعري

الجسرة الثقافية الالكترونية
الرواية تعبير عن مجتمع يتحول، وتصبح أيضا تعبيرا عن الوعي بالتغيير، كما يرى ميشال بوتور، لذلك، اعتُبرت الرواية مجالا خصبا لتطوير الوعي بزمن التحولات، وذلك حسب نشاط القراءة التي تعد أسلوبا في التفكير في الواقع، وهو مُشخَص رمزيا. كلما تطورت الرواية خطابا، تطور معها أسلوب التفكير. لا تعد العملية آلية بين تجربة الكتابة وتجربة التفكير/القراءة، إنما المسألة ذات علاقة بنظام الكتابة الذي يُجدد فعل القراءة، ويُطورها. الرواية شكل يتحول باستمرار تبعا لحركية المجتمع. هناك نصوص تسرد التحول وفق شكل يغامر في التجريب، ويضع القراءة أمام التحدي الأدبي، في حين تقترح نصوص أخرى التفاعل مع حركية التحول وفق مرونة سردية، تهتم بتطوير القارئ وتشتغل بتكوين ذائقته بشكل تدريجي، بعيدا عن إحداث الصدمة التي قد تُربك فعل القراءة، وتنتج حالة نفور من الشكل الجديد. لا يتعلق الأمر بقرار يتحكم فيه مؤلف الرواية، إنما الأمر يتحدد بزمن اللحظة الإبداعية التي تنتج وعيها الضمني، الذي قد يؤسس لحالة مفارقة لزمن الوعي الواقعي للمؤلف والقارئ والمجتمع.
تعد رواية «القوس والفراشة» للروائي المغربي محمد الأشعري الحائزة جائزة البوكر مناصفة مع رواية «طوق الحمام» للروائية السعودية رجاء عالم سنة 2011 ، من النصوص التي تشتغل بهدوء سردي من أجل اختراق مؤسسة السلطة.
تبني «القوس والفراشة» نظامها السردي بطريقتين مختلفتين في الوقت ذاته، ما يجعلها منفتحة على الإيحاء المنتج دلاليا. يأتي السرد أفقيا ضمن خطة حكي مسار أسرة من خلال ثلاثة أجيال من عائلة الفرسيوي، باعتماد الكتابة على أسلوب الحكي المسترسل، والانتقالات السردية غير الفجائية، التي تتابع سلاسة آل الفرسيوي من الجد محمد العائد من ألمانيا رفقة زوجته الألمانية إلى المغرب، لاسترجاع مجد الأجداد، غير أن حلمه يتوقف بعد حادثة سير أفقدته البصر، إلى الابن «يوسف» العائد من ألمانيا، والمنخرط في المناخ السياسي- اليساري، نشاطا وكتابة صحافية وأسئلة تُربك حياته الزوجية والاجتماعية، حول تفكك المجتمع وانتشار سياسة المضاربات، إلى جانب بحثه المستمر عن سبب موت/انتحار والدته، وتستمر الحكاية في مرافقة السلالة، من خلال الحفيد ياسين، الذي كان يتابع دراسته بفرنسا بالهندسة المعمارية، والذي سيتخذ مسارا يُربك منطق السلالة، بالتحاقه بأفغانستان وتفجير نفسه. تضمن الكتابة بهذا المستوى السردي نوعا من الاطمئنان للقارئ العادي بانتمائها إلى الترتيب السردي الأفقي، الذي يُؤمَن وصول الحكاية باعتبارها مجموعة من الأحداث. تحضر العشيرة/السلالة في النص، ليس من أجل تأكيد منطقها، أو تفعيل دورها، أو الانتصار لزمنها، وإنما يتم الإعلاء منها حكاية ثم اختراقها سرديا.
يبدو ذلك من خلال انتقال الحركة من الحدث إلى الحالة، إذ تأتي الأحداث- في أغلبها- مسرودة، مما ينعكس على قدرتها في تفعيل الحكاية، والتأثير في زمنها. كما تخفت حدة الحركة في سياق الأحداث، لصالح الحالة التي جعلت السرد ينفتح أكثر على التساؤل والاستفسار والتأمل، عوض دعم مبدأ التوثيق مع الحدث. تُخرج الحالة النص من منطق الجماعة/العشيرة، إلى منطق الفرد الذي يبرز مع الحالة، في علاقة الفرد بالجد محمد، والابن يوسف والحفيد الذي يظل محكيا عنه.
يتراجع الحدث المشترك في العشيرة (منطق السلالة)، وتحل محله الحالة المطروحة للتساؤل، التي نتجت بفعل خرق العشيرة عبر خرق مؤسسة الأب. يظهر ذلك بوضوح في العلاقة بين الأب محمد والابن يوسف، وهي علاقة اتسمت بالتوتر أولا، ثم الاتهام فالإقصاء. عندما يتحدث الابن يوسف عن والده، يذكره باسمه العائلي، أو بضمير الغائب. كما يتهمه في قضية انتحار والدته، ثم علاقة جهل/ قطيعة بين يوسف وياسين، لأن هذا الأخير سينجز فعلا (التفجير) لم يكن الأب يتخيله، أو يعتقد بحدوثه. كما يتم الخرق، بواسطة حكي الحالة بدل الحدث، إذ، ينتصر حكي الحالة بدل الحدث للفرد، أو للذات الواحدة التي تعود إلى ذاتها قصد المساءلة والتأمل. أما في منطق العشيرة فالفرد مُغيب لكونه يستجيب لوصايا العشيرة وأحكامها، إنه أداة تنفيذية لتصورات العشيرة، التي غالبا ما تكون واضحة بسبب سلطة استهلاكها. لكن أفراد العشيرة هنا، يعودون إلى ذواتهم (محمد/ يوسف) في محاولة لفهم ما يحدث في المغرب من تحولات في المجتمع والاقتصاد والقيم والسياسة، أو ينجزون سلوكات شاذة عن قيم العشيرة (ياسين).
لهذا وجدنا الأب/ محمد يصبح دليلا سياحيا لمدينة مخربة، لكنه لا يقدم الدليل السياحي للمآثر والمدينة، وإنما يقدم دليلا سياحيا لذاته/ لنفسه مثلما وجدنا في صفحة 163 «أنا محمد الفرسيوي دليلكم في هذه الزيارة التي تقومون بها لأعظم مدينة رومانية في حوض البحر الأبيض المتوسط، أتكلم الألمانية لأنني عشت عشرين سنة في ألمانيا، واشتغلت بها وترددت على جامعاتها الليلية أكثر من عشر سنوات وبنيت فيها وهدمت (…)»، «أنا أيضا مثل معظمكم أود أن تظل ألمانيا إلى الأبد أمة مجيدة تواجه كل شيء بقوة لا مثيل لها (…)»، «أنا أيضا مثل معظمكم تزوجت ألمانية شديدة التعلق بواجباتها كزوجة (….) لذلك فقد فعلت ذلك عن طيب خاطر غير بعيد عن هذا الموقع في المرتفع الذي ترونه وراءكم بعد الإسفلت مباشرة.»(ص 163).
إنه لا يحكي/ لا يوثق المكان، ولا يقدم جغرافية الآثار، بقدر ما يحكي ذاته، وهو الضرير، حين فقد بصره، تراجع حلمه. كما يشكل انتحار/استشهاد ياسين، إلى جانب عدم إنجاب الذكور في نهاية الرواية، توقف الخصوبة وانتهاء منطق السلالة/العشيرة.
تُكسر الرواية مؤسسة العشيرة باختراقها من مكوناتها، وتحويل الحدث باعتباره توثيقا للسلالة إلى حالة منفتحة على أشكال التمرد والانتقال من الجماعة الحافظة لليقين، إلى الفرد المنجز للاحتمال. كما عرفت الرواية نوعا من التوازي في الخرق بين المؤسسة الاجتماعية – السياسية والمؤسسة الأدبية – النقدية، إذ خضع التخييل إلى خرق في المفهوم، بدخول عناصر مباشرة، تعزز حضور المؤلف محمد الأشعري في النص. ويتحدد جوهر هذا التحول السردي في هذا المقام التجنيسي في ما سماه الناقد رشيد بنحدو بـ»هذا أنا – هذا غير أنا». وهو الشكل السردي الذي بات يُميز الكثير من النصوص السردية المغربية، التي أنتجتها مجموعة من الأدباء – السياسيين، أعادوا عبر التجربة الروائية مساءلة رهاناتهم الحزبية – السياسية، واشتغلوا بالسرد الروائي باعتباره مجالا للتأمل، وطرح الأسئلة الممكنة، كما وجدنا مع الروائيين محمد برادة وعبد القادر الشاوي وغيرهما.
تم تجميع مختلف أشكال الخروقات بواسطة لغة سردية، تمكنت من احتواء الشتات الذي أصبحت تعيشه سلالة الفرسيوي، لتشكل بدورها سلطة جديدة تساءل منطق العشيرة، وعلاقته بنمو مشاكل اجتماعية، وتناقضات مفاهيمية « (…) ياسين الذي انحدر من صلب اشتراكي مصفى ومات في أحضان الأصوليين»(ص 22)، وتحولات اقتصادية وسياسية أفرزت قضايا شائكة «.. شبكات التهريب والتبييض» (ص 151). تصبح اللغة بهذا التصريف، هي الناظم لهذا التلاشي، في محاولة منها لفهم الالتباسات والتناقضات التي يعرفها المغرب: «إن الأمر شبيه إلى حد ما بفرجة منظمة يتعجب الناس منها ويضحكون وهم يتابعون مشاهدها بدون أن يساورهم شك في أن تتحول الفرجة في يوم ما إلى شيء تراجيدي» (ص150).
……….
القدس العربي