الاستلاب والتغريب في «شهوة النهايات» لصباح الأنباري

الجسرة الثقافية الالكترونية

*صالح الرزوق

 

يتابع صباح الأنباري في «شهوة النهايات» رحلته مع التجريب. فهو في هذه المجموعة التي تتألف من ثلاث مسرحيات هي تباعا «مقدمة، نيازك متناثرة، الوحش والكبش ونصب الحرية»، يستعمل كل الأدوات والأساليب: الأداء الصامت، والمونودراما، والخيال العلمي والتعاقب، حيث يلجأ لسلسلة من التبادل بين المشاهد الصامتة والناطقة، بالإضافة لتوظيف عدد كبير من المفردات والفقرات غير المعربة.

ولا أريد أن أوحي بأن مسرحياته تعكس فوضى في المواقف والأدوات، ولكن أؤكد أنه لعب بما لديه للتعبير عن حالة الاستلاب والتغريب التي يشعر بها.

إن التغريب عند الأنباري في هذه المسرحيات، مثل سابقاتها، له منشأ عدم مشاركة. يعني أنه يتحدث عن موضوع هو مضطر لأن يقترب منه، ليس بدواعي شراء عاطفة القارئ والمشاهد، فهو نخبوي وانتقائي، ولكن لأنه ملتزم أخلاقيا بما يقول.

وللتوضيح في هذه المسرحيات خيط دم وكثير من العنف الفيزيائي والنفسي. فالخراب والقتل بدم بارد من المشاهد المتكررة. أضف لذلك طقوس التعذيب والتضحية بالنفس والتهام جثمان الابن، عوضا عن الطقس الفرويدي المروع الذي قاد الأبناء لالتهام جثمان الأب، ولا يأتي ذلك في إطار نبوءة وأحلام هيلة « كوابيس» وإنما من خلال معاناة ومعايشة. فالمسرحيات اختارت أن تتكلم عن سقوط العراق بيد الجيش الأمريكي، والتجاوزات التي واكبت عملية السقوط. وعلى ما يبدو إن هذا الجرح الدامي تحول برأي الأنباري إلى مستوى سقطة أو هبوط، بمعنى تنزيل ميتافيزيائي من بنية متخيلة إلى بنية ملموسة.

وكما هو واضح أن الفرق بين موجبات الخيال وشروط الواقع واسعة.. وتحتاج لتحول نوعي يشبه ما تجده لدى هنري ميللر في أعماله المهمة مثل «شيطان في الجنة» و «ثلاثية الصلب الوردي».

إن ميللر لم يترك لشخصيات رواياته مجالا للاختيار، لقد كان يفرض عليهم شروط البيئة الحاضنة، وهي أصلا بيئة نفسية تضع الإنسان المفرد في مواجهة مفتوحة مع نفسه، إنه يرفض بنيته ويختار خطابه. وبتعبير آخر، هو يفضل الانفصال عن المضمون، فقط من أجل البحث عن تاريخه، أو عن ضرورات انتخاب اللحظات النوعية من الوعي.

ويمكن إثبات ذلك من خلال المفارقات الغريبة التي تتضمنها العناوين، فهي مفارقات تحمل شيئا غير قليل من التقابل أو المعاني العكوسة، مثل شيطان وجنة، أو موت «صليب» وخصوبة « تورد وازدهار».

صباح الأنباري يميل علنا لمثل هذه الألعاب والحيل الفنية في التصورات واللغة، فيختزل عنوان المجموعة وهو «شهوة النهايات» إلى «شهوايات». وفي تبرير ذلك يقول بصيغة الإدلاء وليس السرد أو التركيب، إنه يحاول أن يكون شاهدا على ما رأى وليس مفسرا له «ص٧». وغالبا ما تلتزم الشهادة بالدقة والموضوعية والاختصار. وإذا كان هذا السلوك لا يتطابق تماما مع عناوين ميللر، فهو يقترب من اهتمامات أستاذه وزميله القاص والمسرحي محيي الدين زنكنة مؤلف ما أطلق عليه «قصرحية» وهو اسم نوع مشتق من دمج واختصار القصة والمسرحية، حيث أن التركيب الفني دائما يترافق مع تسجيل الخبرات المؤلمة والحزينة لتجربة تُجردها الذات وتحولها إلى موضوع، مثل مأساة حلبجة المعروفة، ولا أظن أن هذه الأساليب غريبة عن تاريخنا الأدبي. لقد كتب توفيق الحكيم قبل نصف قرن ما سماه مسرواية «مسرحية روائية».. وجاء بعده في الستينيات الكاتب السوري فارس زرزور و كتب عددا من الروايات الحوارية. وعلى ما أرى هذه الحيرة في انتقاء الأداة، إن دلت على شيء، فإنما تدل على حيرة مماثلة في الذات وعلى موقف غامض من التحولات على مستوى المجتمع. فمرآة الحكيم تصدعت بسبب الانتقال من الملكية إلى العهد الجمهوري، وخطاب زرزور احتاج لفترة تأقلم بسبب التبدل من الفكرة المادية لواقعية الخمسينات إلى الاتجاه العسكري والشمولي في الستينيات، ولم يعد من الممكن تصوير هذه الأحداث الجسيمة بتقاليد فن تأسس قبل مئات السنوات. ولكن على الرغم من التماثل في الأساليب بين هؤلاء جميعا لا يزال يوجد تباعد في الخطاب، أو طريقة مواجهة الكاتب لنفسه ولقرائه، فالحكيم تابع مع أسلوبه الرواقي واللعب بالأفكار والشك بالحواس. بينما كان زرزور في معظم أعماله شديد الاهتمام بتعرية الواقع الاجتماعي والاحتراق في خطايا هذه المجتمعات المتحولة. 

أما الأنباري فقد عمل على الضد منهما ولجأ لتعرية فن الدراما، لقد جرده من ديالكتيك الضاحك والباكي، ووضعه مباشرة أمام موضوعه. والخيط الذي يربط مشاهد كل نص من نصوصه الثلاثة هو المضمون والموضوع.. فهو لا يبتعد عن مشكلة الاحتلال الأمريكي، وما رافقه من عنف وهدر وخراب، وعن ذلك يقول: الأمريكان يوجدون في العراق بصفتهم محتلين لا محررين «ص10». ويضيف لاحقا: إن الولايات المتحدة تشعر بالعار لما حدث «بما فعلته» في سجن أبو غريب «ص 20»، ثم يقول أيضا: هل رأيت يا صديقي ما فعلوه بحضارتنا؟ «25». خيل لي أنني رأيت دجلة نمرا جريحا غرسوا السكين في قلبه فراح يقطر دما غريبا «ص 26».

غير أن توحيد الموضوعات واختيار شخصية واحدة هي «صلاح العراقي» لم يمنعه من اللجوء لأسلوب الكولاج وذلك لتنقية الشكل الدرامي. وبهذه الطريقة وضع المضمون أمام عدة أساليب. وهنا أدين لكم بتوضيح.. كان صباح الأنباري تجريبيا في كل كتاباته السابقة، إنما التزم بمبدأ وحدة الموضوع أمام وحدة الأسلوب، فقد استعمل تقنيات القصة الطليعية في 18 نصا هي كل ما تضمنه «كتاب الصوامت»، ولم يخرج عن طريقة المونولوج الدرامي في حوالي 10 نصوص نشرها في كتابه المزمع إصداره «مونودرامات تاريخية».

وكذلك في أطول نصوصه وهو «ليلة انفلاق الزمن» لم يغدر بقانون التزامن، حيث أن كل شخص من أبطال المسرحية كان له ظل أو قرين، وهو منفصل عن أصله ويتصرف بشكل مستقل عنه. إن مثل هذا التوحيد في الأساليب داخل دائرة مغلقة من التصورات والافتراضات كانت له فوائد اندماجية، بمعنى آخر تحولت المسرحية من الوقوف ضد عناصر الضعف في تطور الإنسانية إلى حالة جوهر متوحد وقناعات مشتركة.

لقد كان صوت الكاتب يتكلم من وراء شخصياته، لكل منها صوته داخل ماهية الإنسان المأزوم، وليس هذا هو الحال في «شهوة النهايات». فالمنطق هنا يتوزع على أداء مباشر وكلام استعاري، ولكن هذا لا يعني الغموض ولا الإغراق بالترميز. بالعكس إن مسرحيات «كتاب الصوامت» أكثر تجريدية وترميزا. أما «شهوة النهايات» فتتوسل بكلام وألفاظ مباشرة للتعبير عن حركات وأداء مرئي وملموس. شيء نراه بالعين المجردة ونعقله بالبصر والسمع ولا يحتاج لتأويل لأنه من غير الغاز أو غموض. وهكذا فرض اغتراب الشكل عن المضمون نوعا من تغريب القارئ عن بيئته، وبالمقابل ساعد النص على أن يكون غريبا عن حدود النوع، وربما هذه هي الفكرة المرجوة من الفن الطليعي.. أن يدعوك لأن تنفصل عما أنت منغمس فيه. وتجهز نفسك للانتقال من حساسية عادية إلى عاطفة مستلبة.

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى