الباكستانية «ملالا يوسفزاي» تكون اولا تكون تلك هي المسألة

الجسرة الثقافية الالكترونية
#حنان جاد
«من فيكن ملالا؟» سأل المسلح، اعتادت ملالا أن تتخيل هذه المواجهة المحتملة، منذ أن تعرضت للتهديد من الطالبان، اعتقدت أنها ستجد متسعا لتلقي محاضرة على قاتلها: «حسنا، أقتلني، ولكن أنصت إليّ أولا….» لكنها، في الواقع، عندما مال المسلح نحو جمع الفتيات اللاتي كانت بينهن في الحافلة المدرسية، وسأل سؤاله الذي سيصبح تاريخيا وجدليا، من فيكن ملالا، لم تحر جوابا، ولا أي من زميلاتها فعلت، في تلك اللحظات العصيبة، اعتصرت ملالا يد صديقتها التي كانت تجاورها في الحافلة بقوة، حسب ما أخبرتها تلك الصديقة لاحقا، بل إن يد المسلح نفسه كانت ترتعش وهو يطلق النار، كما افادت الفتيات، لقد عرف المسلح ملالا من وجهها المكشوف بين الوجوه المغطاة، ومن أنظار الفتيات التي اتجهت بحركة تلقائية نحوها عندما طرح السؤال. أطلق ثلاث رصاصات بيده المرتعشة، اخترقت الأولى محجر العين اليسرى لملالا ثم أخرجها الأطباء من تحت كتفها الأيسر، اتجهت الرصاصتان الأخريان إلى الفتاتين الجالستين إلى جوارها شادية وكاينات رياض.
في بريطانيا، على بعد آلاف الأميال من نفوذ طالبان والدولة الباكستانية، استطاعت ملالا أن تستجمع شجاعتها وترد على قاتلها عبر كتابها «أنا ملالا»، رد قاتلها بدوره «حركة طالبان» بالتهديد باستهداف المكتبات التي ستبيع الكتاب، ثم جاء رد آخر، لعله غير متوقع، من اتحاد المدارس الخاصة في باكستان بمنع تداول الكتاب، مصحوبا بعبارة نبذ صريحة رفعها الاتحاد كشعار «أنا لست ملالا» فالكتاب، على حد وصف بيان اتحاد المدارس، يحتوي على ما يخالف عقائد البلاد والقيم الإسلامية. كيف التقى الطالبان واتحاد المدارس؟ والطالبان والجيش الوطني الذي يكافحه، والطالبان والحكومة؟ بل والطالبان والغرب، أمريكا على وجه الخصوص! تلك هي حكاية ملالا التي ترويها في كتابها الذي، على الارجح، لا يحتوي على ما يخالف القيم الإسلامية، لكنه يحتوي على أنواع أخرى من المحرمات.
ملالا يوسفزاي الباكستانية، ابنة سوات، أحد الأقاليم الكثيرة المنسية على وجه الأرض، أول طفلة تحصل على جائزة نوبل، اسمها يعني بلغة البشتون (المهمومة)، وموطنها، وادي سوات، كان في الأزمنة الغابرة مملكة بوذية، تشير الحكايات إلى أن (الرب بوذا) قد جاء بنفسه إليه كي ينعم بالسكينة! إقليم سوات يشبه القرى المنسية في الساحل السوري وجبل لبنان وصعيد مصر، وحكايتها تتقاطع كثيرا مع حكايتنا.
«آيات شيطانية»
سيرة سلمان رشدي الذي أتى كتاب «أنا ملالا» عليها، فكانت السبب (المعلن) الأكثر بروزا لحظره، لا تشغل في الواقع حيزا بذاتها، على عكس ما يمكن أن يتوقع من يتابع الجدل الدائر حول الكتاب، تأتي سيرة سلمان رشدي عرضا في سياق حديث ملالا عن أبيها الذي ستمنحه مساحة كبيرة جدا في كتابها، باعتباره أكثر من مجرد أب بالنسبة إليها، هو معلم ومرشد، وهو الذي احتفى بها في مجتمع لا يحتفي إلا بالذكور. في هذا السياق تذكر ملالا أن اباها خاض مناظرة، وهو في السنة الأولى في الجامعة مع منافسه اللدود إحسان الحق حقاني حول رواية «آيات شيطانية»، وبالطبع شأن المناظرات كان هناك فريقان، أحدهما يحاجج بتأييد فتوى الخميني بإهدار دم سلمان رشدي، وحظر الرواية وحرقها، وعلى الطرف الآخر يقف والد ملالا الذي، حسبما ورد في الكتاب، قال: «دعونا نقرأ الكتاب أولا، ثم لماذا لا نرد عليه بكتاب… هل الإسلام دين من الضعف بمنزلة تجعله لا يحتمل كتابا يتعرض له؟ إن إسلامي ليس كذلك!».
هذا كل شيء، لم تؤيد ملالا سلمان رشدي ولا روايته، الطريف أن الرواية لم تبع أو تقرأ أو تعرف في باكستان، قبل أن يكتب عنها رجل دين مقرب من أجهزة الاستخبارات مجموعة مقالات ويطالب بحظرها. الأطرف أن اعنف تلك المظاهرات توجهت إلى المركز الأمريكي وقامت بإحراق علم أمريكا، مع أن كاتب الرواية وناشريها بريطانيون. أما الأمر غير الطريف فهو كيف تطورت الأحوال على هذا النحو، من السماح بمناظرة للرأي والرأي الآخر حول الموقف من الرواية داخل الحرم الجامعي عام 1989 إلى الحظر والنبذ والتشويه لملالا التي يصفها رئيس اتحاد المدارس الخاصة بأنها (ابنتنا) وهي كذلك، لمجرد انها أتت على تلك الوقائع سردا في عام 2014.
وتلك هي حكاية ملالا التي لم تشهد بعينيها عهودا من الحرية، لكنها شهدت ورصدت ودفعت ثمن الانزلاق السريع نحو هاوية سحيقة من القمع بمختلف أشكاله، ملالا رأت قاتلها وشهدت ضده في كتابها، ليس الملثم الذي أطلق النار باتجاهها، ولكنه تحالف غريب يبدو متناقضا، لكنه كان ولازال يعمل بانسجام، تحالف يربط بين أجهزة استخبارات أمريكية وبريطانية ومتطرفين وحكومات عسكرية باكستانية.
هل احتوى كتاب ملالا على ما يخالف عقائد البلاد؟ وهل كان كتابها يمكن أن يسمى كتابا ويستحق الورق الذي طبع عليه، لو لم يكن يحمل نقدا وحلما بالتغيير؟
تثور ملالا من دون شك على بعض قيم وعادات المجتمع الذي أتت منه وكاد أن يأتي عليها.
تصف ملالا مجتمعها: «نحن قوم كثيرا ما تنشب بيننا المشاحنات والخصومات، حتى أن الكلمة التي نستخدمها للإشارة إلى ابن العم (تاربور) هي ذاتها التي نستخدمها للإشارة إلى العدو». مجتمع ذكوري، يوصف الرجل الضعيف فيه بأنه (يستشير حتى زوجته).
شهدت ورصدت ملالا حرمان عماتها من فرصة التعليم التي أعطيت لأبيها وعمها، بل كانت الجدة تقدم للصبيين الحليب، بينما تحصل أخواتهما الفتيات على الشاي بلا حليب، وعندما تذبح دجاجة على طعام العشاء، كان البنات يحصلن على الأجنحة والرقبة فيما ابو ملالا وعمها والجد يحظون بلحم الصدر الطري. تذكر ملالا أيضا في كتابها بصيغة ساردة لكنها تترك شعورا بالرفض، القوانين الإسلامية التي أدخلها الجنرال ضياء الحق والتي أفضت إلى تقليص شهادة المرأة في المحكمة، وسجن قاصرات تعرضن للاغتصاب بتهمة الزنا لأنهن لا يستطعن الإتيان بأربعة شهود، ثم تقليص قدرة المرأة حتى على فتح حساب بنكي وحرمانها من ممارسة رياضات معينة، وحتى فرض ارتداء السراويل الفضفاضة على لاعبات الهوكي.وتوجه ملالا انتقادا مباشرا لتقليد محلي يدعى (سوارا) حيث تحل النزاعات بين العائلات عبر عقوبات من نوع غريب تطال النساء، تذكر منها عقوبة صدرت ضد عائلة تقضي بأن تسلم اجمل فتياتها لأقل الرجال جدارة في العائلة الأخرى التي تنازعها ليتزوجها، تلك الفتاة التي ستتحمل وحدها العواقب لبقية حياتها ليس لها أي علاقة بالخصومة وأسبابها.
تشير ملالا في كتابها إلى تناقض ونفاق مجتمعها، بعد أن أعدم الطالبان راقصة الحي شعبانة «كان الناس يحبون أن يروا شعبانة وهي ترقص، ولكنهم لم يحترموها، عندما قتلت لم يعترضوا، بل بلغ الأمر ببعضهم أن أقر مقتلها، إما خوفا من الطالبان أو مناصرة لهم»، لكن بعد مقتل شعبانة بأسبوع سيقتل مدرس لرفضه أن يقصر قميص الشالور إلى ما فوق كاحليه، وقد وقف الرجل أمامهم بشجاعة يجادلهم بأن ليس في الإسلام ما يلزم بذلك، فأعدموه شنقا وأطلقوا الرصاص على والده. مع كل هذا الرعب والنفاق تروي ملالا قصصا للمواجهة، مدارس سرية نشأت في البيوت بعد أن فجر الطالبان مدارس الفتيات، واسماء لرجال ونساء وأطفال أبطال وضحايا لم نسمع عنهم مطلقا.
تروي ملالا قصة الفقر في إقليم سوات بتفاصيله المريرة ومآلاته المهلكة. لكن هل هذا هو ما أغضب اتحاد المدارس الخاصة؟
عسكر باكستان
تدلي ملالا بشهادة مطولة ضمن محور في الكتاب ربما هو في الواقع ما جر عليها ويلات الغضب، عندما تروي قصة الانهيار، ابتداء من الجنرال ضياء الحق الذي استولى على السلطة، ولاستقطاب الدعم الشعبي أطلق حملة أسلمة للبلاد، عين بموجبها مئة ألف مفتش صلاة. وتشرح، كيف كان الجنرال ضياء معزولا محتقرا من النظام العالمي الديمقراطي حتى انقضاء أعياد الميلاد عام 1979، عندما غزا الروس أفغانستان، ففتحت باكستان أبوابها للاجئين، وأطلق جهاز استخباراتها برنامجا ضخما لتدريب المجاهدين. مد الأمريكيون أواصر الصداقة مع الجنرال إبان الحرب الباردة، ودعم الأمريكيون بشكل واسع فكرة الجهاد، حتى أن الأطفال في مخيمات اللاجئين كانت تقدم لهم كتب دراسية أصدرتها جامعة أمريكية تعلمهم مبادئ الحساب عبر أمثلة من قبيل: (إذا قتل مسلم خمسة جنود من أصل عشرة جنود روس كفار، فسوف يتبقى خمسة) أو (15 رصاصة ناقص 10 رصاصات = 5 رصاصات)، ثم تؤرخ للحظة التي سيتحدد فيها انهيار عالمها، إقليم سوات، بسبب أحداث سبتمبر/ايلول التي جرت في نيويورك البعيدة! رغبة الأمريكيين في ملاحقة الطالبان، وسعي الجيش أخيرا لطردهم، مع وجود تحالفات ومصالح وعلاقات قديمة طويلة بين الجيش والاستخبارات الباكستانية من ناحية وقيادات طالبان من ناحية أخرى، ( وجود الطالبان في سوات لم يكن ممكنا لولا دعم بعض قيادات الجيش والإدارات الحكومية لهم).
انتقاد الجيش ليس مسألة عادية في باكستان، ورغم أن ملالا حصلت على منح مالية من بعض قادة الجيش تذكرها في كتابها، وأنها أجرت الجراحة التي أنقذت حياتها في اللحظات الحرجة في المستشفى العسكري وهذا أيضا تذكره، إلا أنها تصر على الإشارة لنفوذ المؤسسة العسكرية في باكستان، ومدى مسؤوليتها عن كل ما جرى. تذكر ملالا عندما ذهبت للقاء اللواء أطهر عباس المتحدث الرسمي باسم الجيش «جحظت أعيننا عندما رأينا أن إدارات الجيش أكثر نظافة ونظاما من بقية المدينة، وتوجد بها البساتين الخضراء المنمقة والورود الزاهرة»، وتصف قادة الجيش بأنهم «أكثر الأشخاص نفوذا في بلادنا بمن فيهم الدكتاتوران مشرف وضياء) وفي المعركة التي خاضها الجيش ضد طالبان تصف الوضع «علقنا بين الطالبان والجيش» وتصف اقتراب حواجز الفريقين من بعضهما على طرق المدينة لدرجة أن بإمكان أحدهما أن يرى الآخر، وتذكر كيف تم تهريب قادة الطالبان وألقي القبض على بعض المتعاونين المساكين، وفي أحيان كثيرة ألقي القبض على الأبرياء. في معركة اتسمت بتشابه أساليب طرفيها، لم يقض الجيش الباكستاني على الطالبان بعد أربع سنوات من الحرب.
وتأتي ملالا أخيرا على ذكر أقوى الخيوط التي تصل حكايتنا في العالم العربي بحكايتها في باكستان، المجاهدون الأجانب، تقصد، أيمن الظواهري، وأسامة بن لادن المختبئ مع عائلته في سوات بالذات، الذين سيحولون، هم والجيش والطائرات الأمريكية التي تتعقبهم حياة إقليم سوات إلى جحيم. «فجأة أنتبه، إلى أن المجاهدين الأجانب الأوائل كانوا عربا! وأن ما يحدث في بلادنا اليوم ليس سوى أن بضاعتنا ردت إلينا».
………..
القدس العربي