التجاذب السردي ـ التاريخي في «الإمام» للمغربي كمال الخمليشي

الجسرة الثقافية الالكترونية – خاص

زهور كرام #

لا تقوم فلسفة الأجناس الأدبية على استهلاك ما حدث من تاريخ وأخبار ووقائع، إنما تُعبَر بأشكالها المتعددة عن رؤيتها الخاصة للعالم، باعتماد لغتها الانزياحية عن اليومي والتاريخي، وقدرتها على التشخيص الذي يُحوَل الأشياء من حالة مادية، إلى أخرى رمزية أكثر انفتاحا على التأويل.لهذا، تحتاج المجتمعات البشرية لمختلف الأشكال التعبيرية، من أجل إنتاج معرفة بما حدث، حتى لا يحدث العبث في منطق الوجود.طلب الوعي بالحالة الحضارية، والإنسانية مطلب وجودي برؤية فلسفية، تتجلى على مستوى التعبيرات الأدبية والفنية.
عندما تعامل التخييل الروائي مع التاريخ، لم يكن يسعى إلى اجتراره، وإنما إلى استثمار خلفيته المعرفية والتراثية (جورجي زيدان)، والانفتاح على تاريخ أساليبه، وتقنياته وأنظمته في الكتابة، من أجل تأصيل هوية الجنس الروائي في التربة العربية (حدث أبو هريرة لمحمود المسعدي)، وتربية الوجدان الجماعي مع أزمنة الخلل الحضاري (الاستعمار/ الانتكاسات/ الهزائم).
غير أن علاقة الروائي بالتاريخي لم تقف عند مستوى الاستثمار والاستلهام، إنما تجاوزته في تجارب روائية، حققت عودة مختلفة لمعنى التاريخ، من خلال ما يصطلح عليه بـ «روائية التاريخ». تعد رواية « الإمام» (1) للكاتب المغربي»كمال الخمليشي» من الأعمال السردية التي انطلقت من التاريخ لتُخرجه من اليقين، وتُدخله مجال التأويل المتعدد.
تحكي «الإمام» السيرة المعرفية للشخصية التاريخية المغربية أسفو/ ابن تومرت(1080 – 1128)، مؤسس الدولة الموحدية، من خلال زمنين: السفر من المغرب إلى بغداد بحثا عن كتاب المعرفة «ذلك السفر العجيب الذي شغل فكره منذ أن سمع بخواصه الخارقة، قبل ست سنوات، من فم الولي الذي صادفه ذات ليلة في ضريح سيدي رابح، والذي غاب في الصباح دون أن يترك وراءه أي أثر» (ص29)، ثم العودة من بغداد إلى مراكش صحبة كتاب المعرفة.
قد تبدو «الإمام» حكاية مخلصة لمنطق السرد التاريخي، الذي يعتمد البعد الأفقي في حكي الحدث، باعتماد التسلسل التاريخي، مع الاحتفاظ بأحداث بعينها، غير أن استراتيجية السرد تجعل الحكاية تغادر زمنها، لصالح الخطاب.
يشكل البحث عن كتاب الجفر (علم يُعلم وسر يُكتم)/ كتاب المعرفة، مقصدية أسفو/ ابن تومرت، الذي خرج في رحلته رفقة صديقه « أحمد» من مراكش، متنقلا بين مدن الأندلس في اتجاه بغداد التي غرف من يد علمائها (أبو حامد الغزالي) ، كما حظي بلقاء الشيخ عبد القادر الجيلاني الذي وصفه بالمهدي المعصوم، وهو الذي أخبره بزعامته لقومه، يقول عبد القادر الجيلاني: «إن الله اصطفاك لزعامة قومك يا ابن تومرت فاشحذ عزيمتك وانتظر الإشارة» (ص 230)، بعد أن دله على الولي» الدباس» الذي منحه كتاب الجفر، يقول السارد: «بعدما استوعب اسفو ما جاء في كتاب الجفر من إشارات بشأنه، عاد إلى حياته الدنيا مثقلا بمشروعه الكبير.»(ص 232).
تأخذ الرحلة مع زمن العودة من بغداد إلى مراكش تجربة جديدة في حياة ابن تومرت، فإذا كانت الرحلة في اتجاه بغداد قد حوَلت أسفو إلى شخصية متلقية للعلم والمعرفة، فإن زمن العودة انتقل بأسفو إلى الشخصية المُلقنة للعلم والدين والمعرفة.
تدخل القصة التاريخية لابن تومرت منطقة التوتر، من خلال اشتغال السرد التخييلي الذي يجعلها تفقد الاتجاه، وتنحرف عن يقينيتها المرجعية، عبر عنصر الصدفة. فـ «أسفو» الذي يخرج من مراكش بعد أن حدد اتجاهات الرحلة عبر الأندلس، يضطر لتغيير الاتجاه عندما يلتقي في رحلته شخصية، تلقنه المعلومة والمعرفة، وتقترح عليه اتجاها مغايرا، فيحدث الانزياح عن الاتجاه الأول. هكذا، يتغير اتجاه أسفو عند لقائه بالشخصية «زينة» زوجة ثري عربي بإشبيلية، والتي ستقترح عليه اتجاه إشبيلية بدل غرناطة. وفي هذا الاتجاه الجديد الذي يقترحه المشهد السردي، تشهد الشخصية نفسها- زينة- تحولا بنيويا في موقعها، ووضعيتها الاجتماعية داخل الحدث مع زمن الرحلة، إذ يتم اغتصابها، وأسرها، وانتقالها إلى خادمة بعدما كانت مخدومة، وينجم عن تحول الموقع تحولا بنيويا في سرد حكايتها، إذ تتحول من شخصية عابرة في الحدث التاريخي، إلى شخصية صاحبة قصة، وساردة حكاية، ومنتجة لملفوظها الذي يمتح سياقه من التراث السردي لألف ليلة وليلة (ص 75). كما سيُحوَل أسفو اتجاه الرحلة من المشرق إلى قرطبة، بفعل شخصية» غانية» التي التقاها «أحمد» واقترحت عليه أن يقنع صديقه أسفو بالتوجه إلى قرطبة لنهل العلم(ص 187).
تعيش الشخصيات كما الأحداث عدم الثبات. لم تستقر شخصية في وضعيتها الأولى، فأحمد الذي خرج في الرحلة لمرافقة أسفو بحثا عن كتاب المعرفة، ستتوقف رحلته قبل الوصول إلى بغداد، وينتقل من وضع اجتماعي إلى آخر، يجعله قريبا من السلطة، وخادما لها، ومستفيدا منها اجتماعيا واقتصاديا ورمزيا. وشيماء خادمة « زينة» ستغادر مكانها وموقعها الاجتماعي. كما تتعرض مقصدية أسفو(البحث عن كتاب المعرفة) إلى انزياحات حسب مقتضيات زمن الصدفة، وعنصر المفاجأة، وطبيعة الشخصيات. تطرح كل محطة أمام أسفو مقصدية جديدة، وأفقا مغايرا، بعضه اجتماعي من خلال التدخل لتحرير شيماء من العبودية، وبعضه طبي عندما يصبح أسفو معالجا لأمراض استعصت على الأطباء، وبعضه أسطوري غيبي، يُعمق الانزياح عن التاريخي، ويُوسع مساحة التأويل.
يعيش النص حركية سردية داخلية جد متوترة، بفعل اشتغال كل مكوناته. كل شيء يتحرك ويتحول إلى حكاية، ومحكيات وقصص يحكيها أصحابها بأصواتهم، وتشهد عليها ملفوظاتهم. بل تصبح المعرفة التي يتلقاها أسفو في رحلته وسيلة السرد والحكي والإخبار، كأن الرواية تعيش وتحيا زمنها من طبيعة ونوعية وكمية المعرفة التي يتلقاها «أسفو» في رحلته.
تنبني الرواية سرديا على مفهوم النسج المتعدد منتجيه. كل شخصية تدخل القصة باعتبارها موضوعا، فإذا بها تتحول إلى فاعل وظيفي، يلقن المعرفة والمعلومة لأسفو، ثم يتراجع في القصة، لكنه يظل فاعلا في الخطاب باعتباره مصدر معلومة تبني الرواية، وتوجه الرحلة نحو المعرفة. وإذا كانت القصة التاريخية قد جعلت مقصدية أسفو تتلخص في الوصول إلى كتاب المعرفة، والعودة به إلى مراكش/ المغرب، فإن المعرفة/ المقصدية سيلتقي بها أسفو، وهو يعبر الأمكنة في رحلته نحو المشرق، ويتلقاها من شخصيات متعددة الهويات والأوضاع الاجتماعية.
ما يميز المنطق السردي في هذا النص، هو الحضور المكثف للنصوص التي تحضر بمنتجيها، الذين يغادرون منطق التاريخ، وينخرطون في السرد التخييلي، إذ يحولهم السرد في هذا النص إلى ساردين متخيلين، يعيدون حكاية نصوصهم عن طريق المناظرة التخييلية، ويخرقون معرفة «السارد التاريخي» الذي يشخصه في الرواية السارد بضمير الغائب، والذي يحضر باعتباره عليما بسيرة أسفو، ومدافعا عن مفهوم البطولة من خلال استعمال أدوات التفضيل، والرفع من شأن أسفو في المواقف والأحداث، وجعله في موقع «صاحب الكرامات». تساهم نوعية النصوص، ولغاتها في صوغ الأحداث، وإعادة بنائها من جديد. هكذا، يصبح المنام معادلا لانفراج أزمة، وحل مشكل مثلما حدث مع شخصية « شيماء» التي سيتم عتقها بسبب منام رآه زوج «عزيزة» التي نزل أسفو ضيفا عليها بمراكش، بعدما أنقذها من أفعى اعترضت طريق القافلة. ويتسلل الرومانسي خفية، عبر عناصر إما متعالية (زمن صوفي) أو غرائبية، ليفتت لغة التاريخي، ويمنح سياق الأحداث بعدا وجدانيا وعاطفيا، يجعل الرواية تنفتح على مساحة جديدة من شخصية «أسفو».
أحدث هذا الوضع الجديد تغييرا في العلاقة بين الروائي والتاريخي، تجلى في انتقال التاريخ من موقع الذات الفاعلة في الحكاية، إلى موقع الموضوع المسرود روائيا، ثم انتقال زمن التاريخ الماضي إلى المستقبل. ويعد هذا التحول الجوهري علامة بارزة في طريقة اشتغال السرد في نص «الإمام»، يظهر ذلك من خلال اللقاء النوراني بين «أسفو» و» زينب» الشهيدة، التي أخبرته بما سيحدث له في المستقبل، عندما يعود إلى مراكش، وكيف سيمهد للتغيير الذي سيتولاه تلميذه عبد المؤمن، كما أخبرته بتفاصيل ثورته على المرابطين، وكيف سيحضر في كتب التاريخ، إذ سيشتهر لدى بعض المؤرخين باسم «الإمام المهدي» ولدى البعض الآخر بـ « ابن تومرت».
تقترح رواية كمال الخمليشي» الإمام» مقاربة جديدة للشخصية التاريخية، من خلال خلق مناظرة تخييلية بين نصوص وخطابات مرحلة الحدث التاريخي، وتحرير الشخصيات التاريخية من صمتها، ومهادنتها للخطاب الديني الذي أنتجه ابن تومرت، ودفعها إلى إنتاج رؤية مختلفة عن البطولة الدينية التي كان يتمتع بها «ابن تومرت» تاريخيا. التجاذب السردي- التاريخي إمكانية تعبيرية، يتخلى التاريخ فيها عن يقينية مرجعه، وتراتبية منطقه، ويتحول إلى إشكالية تخييلية

#القدس العربي .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى