التفكير في «الرواية» بين الصيرورة السردية والبنية الدالة والفهم

الجسرة الثقافية الالكترونية

*عبد الرحيم جيران

 

نريد بالصيرورة  ما يُشار به عادة إلى الحبكة شريطة توافر التحول الذي يحدث بموجبه الانتقال، من وضع أولي إلى آخر مغاير. وقد يكون هذا الانتقال ذا صبغة معرفية لا أَنطولوجية فحسب. وسنعمل في هذا المقال على معالجة الصيرورة بوصفها بنية دالة (غولدمان)، ووسيلة لفهم العالم (ريكور)، ولها صلة بالإرادة على المستويين: الأخلاقي والأُنطولوجي. وسأعمل في مستوى أول على إيضاح هذه النقاط الثلاث- في أفق الدلالة- على نحو متدرج مع ضبط العلاقات الممكنة بينها، ومقاربتها- في مستوى ثان- حسب التوتر بين التصور والتحقق (علبة السرد). ومعالجتها- في مستوى ثالث- وفق ثنائية الكلية (هيغل- لوكاتش) والكل (علبة السرد).

   تقوم أي صيرورة سردية على علاقة إرادة ذات معينة باستعمال موضوع ما، لا علاقة إرادة بتبادله؛ ومعنى ذلك أن كل ذات سردية تتطلع إلى موضوع ما، إما بتملكه، أو بأن تكونه، أو بتغييره لصالحها أو لصالح الجماعة. والحافز في تولد هذه العلاقة ماثلٌ في خصاصة ما تطول العالم، فلا يمكن لفعل الذات السردية المتطلع أن يكون واردا إلا باستشعار نقص ما في الكينونة. وغالبا ما يمنح هذا النقص ذاته في هيئة مشكلة طارئة، لكنها جذرية، وتحتل مكانا أمثل في سلم الأولويات، وبموجب ذلك تعد الصيرورة السردية بحثا عن حل لهذه المشكلة، وهذا ما يمكن نعته بالبنية الدالة التي تكمن خلف كل سلوك بشري. وقد تنشأ- من جراء البحث عن الحل- مشكلاتٌ غير متكهنة تنحرف به نحو مسارات أخرى؛ مما يفضي بالصيرورة السردية إلى التعدد، أو إزاحة بعضها ليحل محله بعضٌ آخر لتنشأ من جراء ذلك تسردات انتقالية يتغير بموجبها الموضوع السردي. وحين نتحدث عن البنية الدالة على هذا النحو، فينبغي تفكرها انطلاقا من فلسفة الفعل. فمما لا شك فيه أن الحل يقتضي دوما نوعا من التناسب بين الوسيلة والغاية، ويُعَدُّ عدم التناسب بينهما خصيصة الرواية بامتياز، لأن الوهمي يتجلى في نهاية المطاف بكونه نقصا في التصور الذي يكون وراء حماس الذات السردية. فالصيرورة السردية تنبني في رواية «شرق المتوسط» لعبد الرحمن منيف- مثلا- على بنيتين دالتين (أو مستويين دلاليين)، تكون الأولى منهما سببا في نشوء الثانية. وتكمن البنية الدالة الأولى في الرغبة في رفع المعاناة من نظام سياسي قمعي (المشكلة) بتغييره (الحل)، وتكون علاقة إرادة رجب إسماعيل باستعمال الموضوع (الحرية) مصوغة بموجب مغايرة الوعي الكائن (التقبل) بوساطة وعي مضاد ممكن ماثل في (الثورة)، لكن تتخلق مشكلة ثانية نظرا لعدم التناسب بين الوسيلة (القوة الذاتية) والغاية (الثورة) بفعل عدم التقدير الناجم عن تصورٍ يُغذيه وهمُ الإمكان، ووهمُ طواعية الوقع للتغييرَ من دون تكلفة. وتمثل هذه المشكلة الثانية في الوجود بالسجن، وعدم تحمل الجسد ألم التعذيب؛ فيستبدل الحل الأول بحل آخر هو «الخروج من السجن» بأي ثمن، حتى لو أفضى إلى خسارة الذات، لكن يتخلف عن هذا الحل الثاني الإخفاق مرة أخرى نتيجة عدم التناسب بين الوسيلة والغاية؛ فالذات لم تكن قادرة على تحمل تبعات الخيانة النفسية، ولهذا تنجم عن ذلك مشكلة ثالثة تتطلب حلا ثالثا، وهو العودة إلى الوطن ومواجهة قدر التعذيب مرة أخرى. يتخذ هذا الحل الأخير طبيعة إصلاح باستعادة الذاتِ نفسَها عبر خيار الموت. إن صيرورة من هذا القبيل تضع ما هو أنطولوجي محل تساؤل يترتب عليه فهم للعالم يتصف بكونه غير مسعف للطوية، فتكون الصيرورة السردية تظهيرا للاستثنائي الماثل في خرق نمطية الفعل، كما هي مسننة في الواقع، والتي تَمْثُل في تلافي المجازفة بالسلامة الشخصية وبالحياة؛ ومن ثمة يكون النضال تمثيلا لهذا الفعل الاستثنائي، لكن عدم التناسب بين الوسيلة (الجسد) والغاية التي تتطلب الصمود يفضي إلى انكشاف الوهم أمام جبروت الواقع.        

لا بد من فحص الصيرورة السردية أيضا- وهي تُصاغ وفق البنية الدالة- في ضوء التوتر بين التصور والتحقق؛ فينبغي على كل ذات سردية الانطلاق من تحديد أولي لما تريده، بما يقتضيه ذلك من تحديد لموضوعها، وتحديد لذاتها. وهذا التحديد يتخذ هيئة تصور قبلي محدد من قبل الذات نفسها («كتاب الأسرار» لإبراهيم السعدي)، أو محدد من قبل الغير أو الجماعة «شرق المتوسط». وقد يكون التصور في درجة الصفر يترك الذات عرضة لردود أفعال تجاه إرادة غير مفهومة «غاندي الصغير» لإلياس خوري. ويستتبع كلُّ تصور- مهما كانت طبيعته- تحققا معينا، أو تحققات متوالية «دون كيخوته» لميغيل سرفانتس. وقد تبرر نموذجية تصور لاحق بعدم نموذجية تصور سابق «السلتي» لماريو يوسا باركاس: استبدال نموذجية تحرير إيرلندا بعدم نموذجية خدمة الدبلوماسية البريطانية. ومن ثمة يكون التوترُ بين التصور والتحقق بما هو خيبة مُؤسِّسا الدفق السردي لكل نص روائي. وغالبا ما يحدث هذا التوتر نتيجة سوء تقدير، أو حماس مبالغ فيه، أو ثقة عمياء في عظات التاريخ. 

وقد يكون منشأُ هذا التوتر أيضا نتاجَ الإصرار على صلاحية التصور، على الرغم من تكذيبه من قبل التحقق، وعدِّ الوهم مجرد حدث طارئ يمكن تجاوزه؛ ومن ثمة يحدث نكران الواقع الذي يفضي بدروه إلى نكران الزمان وجريانه، كما هو الحال بالنسبة إلى فلورينتينو أريثا في رواية «الحب في زمن الكوليرا» لغابرييل غارسيا ماركيز. وحين تطرح مسـألة التصور في علاقته بالتحقق ينبغي فحص محتواه في ضوء المفكر فيه بوصفه اقتناعا ما، أو في ضوء النفسي الذي يتخذ هيئة أمل. ومن ثمة ينشأ من جراء ذلك ارتهان الفعل بما هو يوتوبيا، بما يعنيه ذلك من نكران للحقيقة المتولدة عن التجربة؛ فكل ذات روائية هي مجربة لقدرتها على الفعل، لكن ما يجرب يظل دائما مُعلَّقا، في حالة عدم تصديق، ومن ثمة فهي تخلق نفسها باستمرار، لكن خلقها هذا لا يتم إلا بفعل المسافة التي تضعها تجاه المجرب، والحقيقة التي يثبتها الواقع.

إذا كانت ثنائية (التصور/ التحقق) تضع البنية الدالة في مستوى علاقة الوهمي بالواقعي أُنطولوجيا، فإن هذه الموضعة لا تكتمل إلا بالرؤية إليها في مستوى ثالث ماثل في علاقة الكلية بالكل. فالكلية تتعلق بالفعل الذي تُعبِّر بوساطته الذات عن تطلع الجماعة، لا الفرد. والمقصود بذلك أن الفعل ينجم عن الاستجابة الطوعية لنداء الواجب من دون تمحيصه، أو تمريره من خلال الوعي النقدي، أو المصلحة الخاصة. فالكلية تقتضي نوعا من التلاحم بين الفرد والجماعة أو المجتمع، فلا تعارض بينهما، لا في مستوى تحديد علاقة الإرادة باستعمال الموضوع، ولا في مستوى بنية الفعل؛ فالنمطي هو الذي يكرس في الكلية، لا المغاير المختلف. ولا مجال في الكلية للاختبار أو التجربة؛ إذ تتصف الذات بالجهوز التام، وبكونها مهيأة للقيام بالفعل. والكل معناه أن هوية الذات تصاغ من خلال جماع خصائص نموذجية تمثل تصور الجماعة لمفهوم الكمال الذي يتساوق فيه الخلقي والفيزيقي على نحو متماثل. فتصادي الكلية والكل يعد ميزة جمالية محددة في السرد العريق. 

لكن الرواية لا تتأسس إلا على خرق هذين المبدأين، وتصاديهما، فلا شك أن التوتر بين التصور والتحقق يؤول في جانب منه إلى هذا الخرق؛ وذلك بفعل كون الذات الروائية تُمثِّل الشيطاني (البراني) كما صيغ في السرد العريق، بيد أنها تنقله من موضعه خارج المجتمع إلى داخله، فالذات الروائية لا تمثل وعيا إيديولوجيا لأنها فردانية (غولدمان)، ومن تعيناتها الجوهرية مغايرتُها لكل تأسيس جمعي للوعي، ولأن جدارتها تتأتى من فعلها الاستثنائي؛ فالإخفاق الذي يسم فعل الذات ناجمٌ عن كونها ترى إلى العالم من متاح عزلتها، ووعيها الفرداني المضاد غير الخاضع لأي سمت إيديولوجي جماعي. 

إن الذات في الرواية غير مصطفاة، لا من قبل القدَر، أو من قبل الجماعة وتحديداتها، وإنما مصطفاة من قبل نفسها غير عابئة بالتحديدات الاجتماعية، وبالأوضاع المسننة لكل فعل، سوريل في «الأحمر والأسود» لستاندال. ويستتبع خرقُ الكلية في الرواية تفسُّخَ الكلِّ الذي كان يحدد هوية الذات والواقع في السرد العتيق؛ فالذات الروائية تتصف في الأغلب بمعاناتها من هذا الكل، بما يعنيه من خلل في بنية خصائصها الفسيولوجية، أو الذهنية، ولا تتعامل مع تصور موضوعها إلا من خلال ما هو جزئي ماثل في الأخلاقي، بل جعل هذا الجزئي واردا في هيئة تعارض مع أخلاق الجماعة أو المجتمع؛ فلم يعد الكمال منظورا إليه من زاوية الكل الجاهز المنمط (هنا: الدزاين- كارل ياسبيرس) وفق سمت المجتمع، بل نزوعا نحو كلٍّ متعذر، لا يقبل إلا أن يمنح نفسه في هيئة جزئي يفتقر إلى ما يلحمه؛ ومن ثمة ينعكس هذا الجزئي على تمثُّل الواقع وتمثيله، إذ يفقد وحدته بانتفاء وحدة المفكر فيه والواقع، وتفككهما، ولعل رواية «دفاتر ريغو بيرتو» لِماريو يوسا باركاس، تمثِّل هذا الأمر على نحو جلي، فالشخصية الرئيسة تُمثَّل من خلال أوصاف وجْهية غير نموذجية تخرق الكل الفيزيقي النمطي (الجمال: ضخامة الأنف)، لكن تطلعها يتصف بكونه استهدافا لكمال لا يمنح ذاته إلا من خلال التنافر بين المفكر فيه والواقع بوصفه اختياراتٍ نمطيةً (الأفكار التي تنم عن حس جماعي)، وتعبر الرسائل التي تقحم في نسيج الرواية مهدمة وحدتها عن هذا التنافر على نحو جلي.

ويمكن تناول مسألة الكلية والكل من زاوية أخرى لها أهميتها في تصور الصيرورة السردية الروائية، ألا وهي ثنائية العام والخاص؛ فلا شك أن الذات الروائية فردانية الصبغة، لكنها لا تعبر عن ذاتها الاستثنائية بوساطة فعلها إلا من خلال استحضار ما تعارضه، ويتولد عن هذا الاتصاف طابعها الإشكالي، ففي الوقت الذي تتشبث فيه بالخاص (فكرا- أسرارا- نوايا- سلوكا- غريزة- اختياراتّ…الخ) تفعل ذلك انطلاقا من مراعاة العام، لا بالاستجابة له، بل بالالتفاف عليه، أو خلق تسوية ما معه، «لا قديسون ولا ملائكة» لإيفا كليم، أو بالتصالح مع الواقع من طريق بعد انتقائي لوكاتش: «الرواية التربوية» في كتابه «نظرية الرواية»، لكن مراعاة العام من قبل الخاص لا تقف عند حدود التسوية فحسب، بل قد تتخذ أيضا صبغة تراوح بين الإخفاء والإظهار؛ حيث يتكيف الفعل مع الخارج لأنه مؤثث بالرقابة بكل أصنافها، ويتخذ هذا التكيف شكل إخفاء ما هو مضمر، وإظهار ما يتطلبه الخارج من تماثل، «نجمة أغسطس» لصنع الله إبراهيم.

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى