التّاريخ والمتخيل في رواية «النجدي» للكويتي طالب الرفاعي

رامي أبو شهاب
تسعى الرّواية في بعض تمثلاتها إلى إدراك بعض العلاقات التي تستند إلى نماذج غير تقليدية، أو مألوفة، حيث تعبر إلى عوالم تبدو شديدة التواتر، والظهور، كما الالتصاق بخطابات مصيرية، أو شديدة الحسم، غير أنها تتناسى أنها تقع في مجال إنساني، لا يحتاج إلى الكثير من الصخب السّردي الذي يتراكم بلا دلالات تُضاف إلى وعي القارئ، الذي تحاصره الكتابة الفائضة عن الحاجة، فالروايات تتماثل وتتشابه في معظم الأحيان، غير أن ثمة بين الحين والآخر رواية، لا تحفل بالمنجز من القضايا، ولا تحاول أن تسعى إلى الإفادة من مناخ شائع في السرد، فليست كل الروايات تدَعي موضعة الحقيقة، إنما ثمة كتابة تحاول أن تتصل بالمساحة الضيقة بين الإنسان وعوالمه الداخلية، أو الفلسفية التي تستند إلى تقييمات تأويلية، ولكنها ليست محسومة.
في الرواية الصّادرة عن ذات السلاسل في الكويت 2017 بعنوان «النجدي» يذهب الروائي الكويتي طالب الرفاعي إلى نموذج سردي مغاير، وإن كان معظم دارسي الرواية والمعلقين عليها يذهبون إلى تأمل المرجعية التاريخية التي يستند إليها هذا العمل، بوصفه سيرة النوخذة علي ناصر النجدي، الذي قتل في عاصفة برفقة أصدقائه في البحر في 19 فبراير/شباط 1979 كما تشير عتبة التقديم، وبذلك فإن الحافز لكتابة هذه الرواية – ربما – يذهب إلى الرغبة باستعادة هذا الحدث التاريخي عبر المتخيل السردي، وبذلك فنحن إزاء مكونين: المرجعية التاريخية، والمتخيل السردي، وبينهما ثمة مساحات من التأويل التي تطال المحفزات التي دفعت مؤلف العمل إلى اجتراح هذه المغامرة السردية.
لا شك في أن العمل يبين عن متعلقات لا بد أن تجذب القارئ، وتثير انتباه النقاد على حد سواء، ومنها المعجم البحري، كما المعرفة المعمّقة بتقاليد الإبحار: أدواته وخبراته، بالتوازي، مع اللغة التي تقترب في بعض المواقع من الشعرية، أضف إلى ذلك تقنية تمزج بين المشهدية السينمائية والرواية، فضلاً عن توظيف التداعيات، والانتقالات بين الأزمنة، عبر رابط نفسي حدثي، علاوة على تبويب زمني للأحداث، بالإضافة إلى حوارات داخلية بهدف تفعيل القيم التفسيرية بوصفها إحدى وظائف السرد، كل ما سبق ليس سوى حرفية الروائي يعتمدها روائي متمرس بالكتابة. غير أن هنالك أسئلة يجب أن تطرح عند مناقشة هذا العمل، وتتعلق بسؤالين محوريين هما: ما الوظيفة الدلالية لهذا العمل ببنيته التاريخية القائمة على الاستعادة والارتهان لحدث تاريخي وقع عليه المؤلف، ووجد له سندا توثيقيا يتمثل بكتابة «أبناء السندباد» للكاتب الأسترالي ألن فاليرز؟ في حين يتمثل السؤال الثاني بتموضع هذا العمل في الإطار الدلالي الراهن، كما الآثار المرجوة للكتابة عن مضمون ربما يكون الدافع الأول له إعجابا ظاهرا أو مضمرا بهذه الشخصية ذات المرجعية الواقعية؟
ما سبق، يدفعنا بطريقة أو بأخرى إلى التسليم بمقاصد الكتابة التاريخية، كما وضحها لوكاتش في كتابه «الرواية التاريخية».
لا شك في أن هذه الأسئلة تبدو ذات طبيعة إقحامية، كما إنها غير بريئة من تهمة التأويل، كونها تسعى إلى اكتناه خطاب مخاتل دلالياً، فالكتابة ضمن التخيل التاريخي لها مبررات، أدناها وضوحاً البحث عن تمثيل تاريخي لنموذج معاصر، يُبحث عن صورته في التاريخ. ثمة لدى لوكاتش أقوال تختزن هذا الحافز بوصف الكتابة تهدف إلى خلق مروية تمجيدية، ولعل هذا ربما يكون مشروعاً في عمل طالب الرفاعي، ولكن كتابة التاريخ لا تعني معاملة التاريخ كأنه مجرد أزياء، ونموذجها في هذا العمل مفردات البحر والغوص، وهنا لا أعتقد أن هذا النهج كان من محفزات كتابة هذا العمل، لا سيما لدى طالب الرفاعي، ولكن ما الدافع؟ وكيف يمكن أن نفصل بين الفعل التوثيقي لحياة النجدي، والسياقات التي نشأت فيها هذه الحكاية؟ لا شك في أن النجدي الذي تبدأ قصته بحدث يشي بعمق العلاقة الروحية كما الدلالية بين الطفل «النجدي» والبحر، فحين يذهب الطفل للبحر يستغرق في النوم، ولعل النوم بالقرب من البحر يشي بفعل مطمئن، ثقة مطلقة، هي صداقة صوفية بين مكونين، الإنسان والبحر. هذا الطفل الذي يؤمن بالبحر بوصفه عالما نقيضاً لكل ما يشغل الإنسان القاصر روحياً. فالبحر ليس مكانا أو مكونا من مكونات الطبيعة وحسب، كما أنه ليس جزءاً من فهم براغماتي بوصف البحر مجالاً أو سببا للرزق، مع أن العطاء كما السلب من شيمه، كما أن البحر ليس وسيطا للانتقال والسفر وحسب، إنما هو – من منظور النجدي- يعني قيمة مطلقة، أو ذاك المثيل أو المشابه ضمن علاقة جدلية فلسفية، تتشكل ملامحها من تلك الصفات أو التأويلات التي يخلعها النجدي على البحر ضمن حوارات داخلية، تنتشر في المتن السردي بشكل واضح، وفي أحيان كثيرة تبدو جزءا من مقولة سردية شديدة العمق، حيث ثمة استباق دلالي للعلاقة مع البحر، حيث يقول النجدي: « البحر بيتي الثاني» لن أقول لها البحر ينادي عليّ.
تذكرت جملتي التي رددتها على صديقي النوخذة عبد الله القطامي. نهايتي راح تكون في البحر».
لا ريب في أن هذا التكوين المبدئي يشي بحيرة دلالية تنطلق من ذخيرة القارئ في فهم العلاقة بين البحر والنجدي، هذه العلاقة التي دفعته لنبذ مجموعة من القيم الاعتيادية التي تتصل في مجال إدراك الإنسان لوجوده في الحياة، لقد نبذ النجدي التعليم من أجل البحر، لقد تخلى عن هذه القيمة، واكتفى بالقليل من التحصيل العلمي كي يربح البحر، وهذا يتجاور برفض أي مستقبل لا يمس البحر مباشرة. هذا الإلحاح على معانقة البحر مبكراً، أو التعلق بكل ما يتصل بالبحر، من شخوص، وحكايات، ومغامرات نطلَع عليها كقراء، من خلال تقنيات السرد التي ترتد ذهاباً وإياباً بين اللحظة المعاصرة للنجدي، وقد تجاوز الستين، وماضيه كنوخذة، فكافة الإحداثيات تعكس علاقته مع البحر على امتداد عمره، بدءأ من زمن الطفولة إلى زمن التخلي عن البحر، ومغادرة البحارين لمراكبهم وبيعها، أو التخلص منها بعد أن جاء النفط.
ثمة في هذا الإيقاع قيم دلالية تتصل بموقف النجدي من الزمن، اتصاله بعالم متعالٍ، فالبحر تكوين فلسفي يتصل بقيم لا يدركها أي كان، ولعلها تعني الانفصال عن العالم إلى مكون جواني يمثله البحر الذي يعني حياداً، أو غموضاً لا يفتقر إلى سحر قوامه التحدي، هي نزعات تشوبها ملامح صوفية، تكاد تماثل ما لدى الروائي الألماني هرمان هسه.
هناك إقصاء للعالم مقابل ذاك الإحساس بعمق الأشياء وغرابتها، ففي متتاليات السرد نقرأ انفصالا تاما عن كل ما يتصل بقيم العالم المألوف، أو العادي، إذ لا شيء يبعث النشوة في روح النجدي سوى البحر، إنه إحساس ربما يقاوم عبثية الوجود، وضآلة البشر، لا شك في أن طالب الرفاعي ضمن مجاله المتخيل قد تصرف بتأويل عالم النجدي البحري، لقد أضاف للتاريخ فهمه، أو لعله استقرأ ما كان يعتمل في أعماق النجدي، الذي واجه تحولات عالمه قبل أن تبدأ، لقد بدأت العرى التي تجمع بين النجدي والبحر تنفصل مع تعالي النبرات الطارئة التي أقصت ذاكرة البحر من وجدان الشعوب التي استبدلته بمنجزات الحضارة المادية، إن هذا التخلي كان مؤلماً حين اضطر لأن يتنازل النجدي عن سفينته البوم التي صنعها يوماً القلاف.
لقد سعى النجدي إلى البقاء في البحر أطول مدة ممكنة، حتى رحلاته ومبادئه في الإبحار، اتسمت ببحثه عن كل ما يجعله قائماً في أحد مقامات التصوف البحري، فهو يبتعد في عالم البحر ليمضي عميقاً، لقد فضّل رحلات التجارة والنقل على رحلات الغوص والبحث عن اللؤلؤ، كون الأخيرة لا تتيح له مجالا فلسفياً للاختلاء مع البحر، هي ممارسة ذات طبيعة أقرب إلى التوحد، لا شيء يصرف انتباه النجدي عن البحر، بل هو لا يقيم تواصلاً حقيقياً إلا مع البحر.
في الرحلة الأخيرة يذهب النجدي مع صديقيه لصيد السمك، وهي رحلة لا هدف منها سوى التسلية، والاتصال مع البحر، غير أن سياقات تلك الرحلة مع كل ما استشعره النجدي من إشارات سلبية تتصل بالأجواء، وتغير الجو والرائحة، ودعوة زوجته لعدم الذهاب وغيرها … لم تثنِ النجدي عن القيام بها، ففي أعماقه نداء ما، فوجوده مرتهن بالبحر، ولاسيما أن العالم لم يعد ينطوي على قيم كالتي أدركها النجدي في البحر، ومنها أجواء البحر، ومتعة الإبحار والمغامرات والتحدي، كما مساعدة الآخرين، فضلا عن القيم الفلسفية للاتحاد مع البحر الذي يعني تحدياً، وهذا يتضح في رد النجدي عملياً على رأي ألن فاليرز الذي اتهم البحارين العرب بأنهم يبحرون بالقرب من الشاطئ.
إن مفهوم المتخيل السّردي بواقعته التاريخية ليس مجالا ًيسيرا من الكتابة، كونه ينطوي على مزالق ربما تخرج بالنص عن فهم بعض السياقات، كما أنه يحتوي على قدر غير ضئيل من خطورة عدم التطابق بين الواقعة والحدث، ولكن هذا لم يكن ليشكل مشكلة لدى الرفاعي الذي تجاوز هذه الإشكاليات، فمتخيله قد راهن على شيء آخر، لعله مقصدية لا يمكن أن تلتقط بسهولة؛ لأن ذلك يحتاج إلى تفعيل مُضمرات النص، ومن ذلك على سبيل المثال المشهد الذي نرى فيه النجدي، وهو يصارع الأمواج ضمن بناء حركي، حيث اللغة وزاوية الرؤية والتبئير تتسم مجتمعة بنضج فني، ولكن في تضاعيف النص هناك إشارات تشغل ذهن المتلقي، حين يعيد الروائي موضعة الحكاية في وعي آخر، لقد استجلب النص النجدي- الرجل العجوز- وهو في عمق البحر، يصارع أمواجه وظلمته كي ينقذ صديقيه ونفسه، وهناك استحضر ماضيه، إنه ماضٍ متصل بشخوص غادر معظمهم العالم، فمعظمهم ينتمون إلى عالم ما قبل النفط. عالم البحر، أمه، ووالده، وأخته، وزوجته شمة، وأصدقاؤه، تلك القيم التي تبددت وأدرك تلاشيها، بل رثاها النجدي مبكراً في متن النص، حيث العالم الذي تغير، فلا عجب أن يرفض متعلقاته، ومنها قيادة السيارات، فالمدينة أصبحت وحشاً ابتلع كل شيء: «الآن أسمع النهمة والغناء البحري، تموج حياة كامنة في قلبي، بيوت فريجنا الطينية، ولعب الأولاد والبنات في البرايح الترابية. تنبت أصوات أعرفها في أذني. يحضر بي سِيف البحر، ومنظر مئات السفن الراسية، وهمة وضجة القلاليف في تقطيع الأخشاب، ومطارق الضراريب في تثبيتها، يصنعون السفن الشراعية.. كويت العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات كانت بحرا وغوصا وسفنا».
في عمق البحر، كان النجدي يفكر بصوت الماضي، أي عالمه القيمي، ماذا سيقول عنه الناس، فهو لا يتقبل أن ينتصر عليه البحر في هذا الظرف، وهو الذي خبر البحر، وخرج من أصعب المآزق، ولكن الحقيقة بأن البحر قد اصطفى النجدي من هذا العالم، وهنا نعيد تفسير الإشارات الدلالية، فالمركب الذي غرق تلك الليلة كان مركبا ينتمي إلى زمن عالم اليوم، أي زمن المحركات لا الأشرعة، وهي مفارقة دلالية مهمة، فمراكب الأشرعة تعني نقيضاً فلسفياً لقيم الحداثة، فالمكون الصوفي الشعوري فقد قيمته في هذه الرحلة، فمع كل مسافة يقطعها المركب للأمام، أو للنزول إلى ظلمة البحر، ثمة اقتراب من حقيقة الأشياء، والعودة لها، وهذا يعني نموذجاً فلسفيا لمواجهة قيم (العالم الجديد) الذي لا يجد فيه النجدي موقعاً، فكان لا بد أن ينسحب رمزياً إلى عمق البحر، إلى العالم الذي يألفه، والذي يتمكن من فهمه، إنه اختلاف مع هذا العالم، اختلاف مع كل مظاهــــر الوجود التي تفتقر إلى الكثير من المضمرات، التي لا يمكن أن نصرح بها.
إن النجدي يرغب بعالم روحي فلسفي خالص، فلا جرم أن يتمنى أن يمشي على الماء، وهي صفة اتّسم بها المسيح عليه السلام. إن هذا المسعى الدلالي تجسيد واضح للعوالم الروحية الصّوفية لمواجهة عالم مختلط، بلا ملامح، ولا ينطوي على حقائق الوجود… وهنا نختتم بعبارة تعكس هذه الروح المتسربة من عمق الأشياء حيث يقول النجدي: « يوم أمس ولى وراح، وأبداً لن تلتفت الحياة إلى الوراء».
وهكذا نستــــنتج، أن هذه الرواية لا تستند حقيقة إلى جانب نوســـتالجي تاريخي وحسب، إنما هي نص يكتنه حقيقة المتغير، ولكن بعمق فلسفي شفيف لا يكاد يُلاحظ، بيد أنه حاضر في نسق المحكي الذي ينطوي على وجهات دلالية كامنة في طبقات النص.
(القدس العربي)