الحياة بصورتها الشائكة بين السرد والصورة: مناديل «مصحة الدمى» للقاص المغربي أنيس الرافعي

الجسرة الثقافية الالكترونية

*عبد الغني فوزي

 

يعتبر أنيس الرافعي واحدا من فرسان القصة القصيرة اليوم ؛ ليس فقط من خلال استرسال أعماله القصصية، بل لضلوعه في هذا النوع الأدبي، وهو بذلك يختبر الحكي في كل خطوة سردية، استنادا إلى عدة معرفية متعددة المسالك؛ وعلى قلق رؤيوي يسعى إلى كشف ما، من خلال تجربة حياة في القصة، وتجربة القصة في الحياة؛ حياة مركبة، متجددة بالأسئلة والقلق الملازم.

لهذا ينهض كل مؤلف قصصي مع الرافعي على ثيمة وسؤال مركب ومتشعب الداخل إلى ما لا نهاية. في هذه الحالة يتحول أي عمل قصصي لدى القاص أنيس إلى «مختبر» للقياس والاستنتاج، في مواضيع زئبقية، تتعلق أساسا بدواخل السارد وتشخيصه لأزمات على قدر كبير من التراجيدية، ضمن تراجيدية كلية ومشهد عام. وفي المقابل، فحين ينطرح التأليف القصصي على هذه الشاكلة، أي وفق تصميم دقيق ينهض على تبويب وبحث ضمن ورشة، تبدو معها مكونات السرد متخلقة أمامك، بل يمكن للقارئ أن يساهم في بناء عوالمها، بعد تفاعل خلاق مع المداخل والطريقة التي تنبني على خيوط منسوجة بشكل شفيف يؤدي إلى الهتك وتكسير الحدود والقبضات، بما فيها قبضة السرد. أقول حين ينطرح عمل قصصي بهذا الزخم والتشكيل الذي يخفي وراءه جهدا وعرقا. لا بد من جهد آخر، يتمثل في التفكيك والسعي إلى الاقتراب أولا من مختبر القاص؛ والنفخ معه ليس في المزمار نفسه، بل في مزمار آخر يخلق توليفة موسيقية تعمق نغمة الفقد، في أفق فتح باب الاحتمال على مصراعيه.

وهو ما أسعى إلى نهجه مع الكتابة القصصية لدى القاص أنيس الرافعي، أن أواجه تعدده، بتعددي أيضا، وأن تكون الانتقالات موضعية من البنية النصية إلى أخرى فكرية ومعرفية غير منفصلة عن وضعيات ومشاهد المجتمع والمرحلة.

كما سلف، ففي كل مؤلف قصصي لأنيس اشتغال على ثيمة وسؤال، استنادا إلى تقنيات ومعرفة شاملة. وبالتالي، فإنه يفتح القصة على حقول وفنون مكتوبة وبصرية. فتأتي مادة الحكي موزعة، عبر خيوط، تنسج أفقا تأمليا وأدبيا. الشيء الذي دفعني مع هذا العمل 

«مصحة الدمى» الصادر مؤخرا عن دار العين المصرية، إلى عرض لوحات، بهدف التفكيك والسعي المضيء إلى الإمساك بالعصارة، التي بالإمكان الظفر بها، بعد مدارج وعرق.

«مصحة الدمى» بدورها، على غرار أخواتها، اختارت ثيمة تتمثل في الدمى بين السرد والصورة. وهي دعوة لإمعان النظر في أدوات الاشتغال، قبل ولوج هذه الإقامة القصصية الشائكة، وقد تصفو قليلا بعد إدراك قوانين اللعب، بالمعنى العميق لكلمة «اللعب». وتتمثل هذه الأدوات في الدمى كمدخل للحكي. والصورة بين الأصل والتخيل، فضلا عن السرد الذي يطرح كنسيج. وقد هيأ القاص لهذا التعدد محتمله الحكائي، تمثل في مصحة تحاكي الأصل؛ لكنها تبتعد عنه في نسج لعالم خاص، يتكون من قسم الإرشادات، ويطرح فيه الكاتب أقوالا موازية، منها ما يتعلق بالصور اللصيقة بالحنين والجذور؛ والآخر منها في توصيف خلاق للدمى التي تتحرر من إطارها المرجعي، وتبدو سابحة بين الأحلام والهواجس والرغبات الممثلة للوجود الإنساني. ورد في «مصحة الدمى» في باب «النسيجة»: «هذا هو المقصود منذ بداية الأمر، أن تصير أسرارك نموذجا يقف أمام آلة مصوب. نموذجا في وضعيات معينة، بأعداد غير محدودة ولا نهائية، مثلما هي وضعيات جولات الشطرنج. هذا هو المقصود عند نهاية الأمر: أن تتساءل مع الحكي، مع الزمن، مع المنظورات، مع الزوايا، مع الضوء، مع العمق، مع الفراغ، مع الملء، مع الصمت، مع الظل، مع ظل اليد، مع الوضعيات، مع الأبيض، مع الأسود، ومع ما بينهما من تدرجات لا مرئية». وبعد ذلك، يأتي ما سماه القاص بـ»فوتومونتاج»ـ سردي يطرح فيه كيفية اشتغاله، لبناء «خلطة» سحرية من خلال «النسيجة» ومدونة الدمى. لتحل توليفة العمل القصصي المعنون بـ»حكايات الفوتوغرام»، وتتضمن أجنحة المصحة وهي: جناح الغصص، جناح الأورام، جناح الهلاوس، جناح العاهات، جناح الشظايا، جناح الفصام، جناح العدم. ليقفل العمل بسجل الصور الفوتوغرافية. في ما يبدو لي بعد هذا العرض، أن مجموعة «مصحة الدمى» تطرح معرفة خلفية متنوعة بين ثقافة الدمى والصورة على تنوعها، فضلا عن المتن القصصي غير الخطي ولا الحدثي، في تكسير للأصول أو تثوير تصوراتها في بناء السرد. وحسنا فعل القاص أنيس الرافعي، في عرض مدونات الاشتغال، لأنه بدونها، ستكون النبتات ـ القصص المحبوكة بكثير من الجهد والعرق، معرضة للرفس والتشويه…

 

* * *

 

حين نطرح السؤال الملح: كيف يكتب القاص أنيس الرافعي قصصه؟ تجده إلى جانبك في تعميق السؤال عينه. وهو هنا ينسج قصته، بناء على توليفة من الصورة والسرد، فضلا عن المادة المتمثلة في الدمى. والمتحصل، أنه يطرح في «النسيجة» تأملاته في الكتابة، انطلاقا من مرجع تلك الأدوات، فالدمى متنوعة ومتعددة، تبعا لتعدد أحلام وإسقاطات الإنسان ؛ بل أكثر من ذلك يتم توظيفها كأقنعة في معارك الإنسان. وهو ما يؤكد أن الدمية تتحول بالتحوير والتلازم حد ضياع وذوبان الأصل. ليغدو لكل إنسان دميته. ويبدو، أن تعدد الدمى يقابل ويناظر تعدد الحالات (رغبات، هواجس، أعطاب، قلق …). في هذه الحالة، تتحول الدمية إلى وسيط بين العالم الأول وعالم التخيلات أو الأشباح، إلى حد تتحول معه الأجساد إلى دمى متحررة من مرجعها وواقعها. 

ومن الملاحظ، أن استحضار الدمى ومصحتها مر بتأزيم للمفهوم الأصل، بواسطة السؤال القلق، الساعي إلى إيقاف اللغة البشرية أمام عجزها، كأن للبكماوات لغة ثانية ـ بلغة المجموعة ـ تكتشف بالحالة والسفر المبطن بالأسئلة. الشيء الذي يحول الدمى إلى مواد مجهولة بواسطة الصورة كسجل، لكنها نفسها تتحول إلى صور ثانية تبعد اليد. فهذه التأملات في المادة والصورة، ستخلق صورة ثالثة مبطنة بتساؤلات حول الحكي نفسه والمكان والزمان.. ما سيؤدي إلى تعدد الزوايا. ويمكن اعتبار باب «النسيجة» مدونة لعرض تصور الكاتب للقصة في هذا الكتاب الحكائي، فهي بمثابة إقامة مفتوحة على فنون بصرية وحقول معرفية (تأملات، نظريات…). بهذا، فالكاتب يكتب قصة محاورة لما يثوي في الوعي واللاوعي الإنساني، الفردي والجماعي؛ وتحاورية بين مكوناتها الداخلية المتنافرة. ولكنها تلين وفق تشذيب قصصي له ممكناته الجمالية والتخييلية التي بالإمكان نعتها بطريقة خاصة، تأكدت؛ بل ترسخت من خلال منجزها القصصي. إنه (أي القاص) بذلك، يأخذ من الدمى دميته، ومن الصور صورته، ومن السرد حكيه، وينسج «كونه» السردي في قلب العالم المعطوب .

 

* * *

 

تنطرح «مصحة الدمى» في هذا الكتاب عبر متن سردي، نعته القاص بـ«حكايات الفوتوغرام»؛ وقد خلق القاص محتملا سرديا يليق بهذه المصحة، التي هي عبارة عن أجنحة تحاكي الأصل في المصحة. لكن سرعان ما تخرق هذا الأصل، لتغدو المصحة غير إسمنتية، مسنودة إلى الحالة المشحونة بالهواجس والأحلام والقلق.. فكانت أجنحة المصحة المتخيلة عبارة عن خانات في معالجة النوازل التي تقع وتخطر في ذات السارد، في قلب المكان والزمان. لهذا، فالحكايات تتخلق أمامنا ليس كتركيب خطي للأحداث، بل يتم الإيهام بما يحدث، في المسار والبرنامج السردي للسارد المطبوع بالانفصال والتجاذب بين الذات والموضوع. وفي الغالب تنطلق كل قصة من حادث ساقط أو مطروح أو مهمل، ليتوغل به السارد، من خلال رحلة تتمثل في تلك التنقلات المشهدية بين العمارة (مسكن السارد)، وفي قلب تلك المشاهد يتم تحريك الدمى. وهي تجنح من دائرتها إلى دائرة الصورة كتمثيل قد يبعد عن أصله الفوتوغرافي إلى آخر مفارق.

هنا يحصل تأليف وتوليف هذا الفوتوغرام القصصي. كأن الأمر يتعلق بانتقالات موضعية، من الدمية إلى الصورة إلى الحكاية التي تطرح تشخيصا لوضعيات السارد الذي لا يستقر على حال أو ملمح، بل متعددا كشخوص عبارة عن تشكيلات تفكير وتأملات بين الظاهر والباطن، بين المرئي واللامرئي. ورد في حكاية «جناح الأورام « هذا الرجل الذي عن لي، ربما توهمت لحظتها أنه من الممكن أن يكون أحدا آخر هو نفسي، يمر من أمامي وأنا ناظره كما لو كان شخصا أخر غيري ولست أنا، أو كما لو كنت أنا غيره ولست هو، كان على الأغلب شبيهي المطابق أو بديلي الغريزي، الذي يزعم أنه نصفي الضائع، ويظهر بين الفينة والأخرى كي يلج حياتي عوضا عني، يزيل أي أثر لذاتي».. في هذه الحالة، لابد من لغة المرايا وتعدد زوايا النظر، لصوغ الحدث الواحد. 

فغرفة السارد تتحول إلى أرجوحة أو أداة سفر في الذاكرة الفردية والجماعية، في الشعور واللاشعور.. فكان لكل حدث مهمل أو متلاش امتدادات كأطر خلفية في تاريخ الإنسان، ضمن توارد الحالات وتراسل الحواس، فضلا عن تأملات على أسئلتها المتنوعة، فتتخذ الدمى تمظهرات متلائمة والحالات، إلى حد قد تتحول الدواخل إلى دمية أو دمى. وقد تكون هذه الأخيرة متربعة في أصلها وشجرتها من منظور عادي. نقرأ في حكاية «جناح الشظايا « في الحقيقة لقد رباها طيلة السنين الكثيرة الماضية في ركن دافئ من أعطافه حتى صارت بصنو عمره. وها هو الآن، على مفرق الكهولة، لم يعد يعلم هل هي الدمية الأصلية نفسها التي كان يحتفظ بها بين أشيائه الحميمية الخاصة، بدون أن يجرؤ على كشف سرها لأي كان؟ أم هي دمية أخرى حديثة العهد بالظهور، خرجت خلسة من غفوتها على الضفة المجهولة لوعيه، كي تعوض دميته القديمة بعدما نهب الزمن رونقها مثل صورة فوتوغرافية محروقة؟». والمتحصل أن السارد يسوق حكيه، في تصاعد وتصعيد درامي، يحول القصة إلى مقامات ومدارج، والسارد مجذوبها ولاهثها بين الدوائر التي تأكل نفسها في توالد وتوليد.. ضمن دائرة قد يندغم مبتدأها بمنتهاها.. حكي مبطن بجدليات بين اللغة والصورة، وإمارة الدمى. وبما أن هذه الأخيرة تمثل وجوها إنسانية ـ ولو مقنعة ـ في الواقع والحلم والوجود.. فتبدو قصص الرافعي سفرا في هذه الأحوال بكثير من الشك، وإعادة طرح الأشياء على هياكلها وأساطير تأسيسها من جديد، وفق حمولات السارد المعرفية والنفسية بالأساس. لهذا تحضر عدة أنفاس في هذه القصص في كتابتها، منها النفس التراجيدي المتصاعد والمتنامي، استنادا إلى تصادمات بين الأفكار والأنساق من خلال أصغر الجزئيات اللصيقة بحياة السارد. كأنه يقوم بتدوين قصصي لسيرته، وهنا يحضر النفس الأوتوبيوغرافي بخاصية دقيقة تبدد من التطابق واكتساح المرجع.

 

* * *

 

وبعد، هل يمكن توصيف حكايات «مصحة الدمى» بالمناديل؟

يغلب ظني، أن الصلة قوية بين النص والمنديل، فكلاهما نسج وبصمة خاصة؛ يلتقيان في النقطة التي تربط الشيء بالشيء والملمح بالملمح على رقعة ما وضمن أفق طالع. فتتعدد المسارات والكينونات الخفية، وهو ما يؤدي فيضا إلى تمدد وإغناء الواحد ـ الجسد الذي اختار بقوة، النص أصلا وشبيها.

وليس غريبا، أن يربط أسلافنا النص قديما بالنسيج والنسج. فبهذه البلاغة الخاصة، يعتبرون أكثر إصغاء للنص المحاك لغة وتخييلا، النص الذي لم يقو النقد (ولو بمعناه البلاغي) آنذاك على احتوائه أحيانا، على الرغم من أن التلقي زمنه تمثل في إصغاء أذن ترى. النص الذي أتحدث عنه هنا، ليس بالهش أو المصاب في مهده، ولا بمخروم الطبقات والتشكيل؛ بل المحاك كسلسلة تكوين ممتد في اللغة والوعي.. فالنص الرافعي جدير بهذه الصفة كنسج له طريقة خاصة، في توظيق المكونات السردية، هاتكا خصائصها العادية والمتراكمة، فاتحا ومرتادا آفاق طرية، تجعل القصة منفتحة على الخلفيات والعيون البصرية الأخرى، من خلال سارد متعدد الزوايا، يخيط المشاهد والمربعات أو الدوائر بحس دقيق بالمكان والزمان؛ كأنه يطل على العالم من نقطة ما. فيكفي أن يلمس السارد شيئا يمر عليه بالحواس والتأمل حتى يتحول إلى غرائبي، ليس كتقنية فقط، بل كمنظور ورؤية. 

إنه الشك القصصي الذي لا يبلع الأشياء والحقائق، بل يعيد خلقها في التوتر المركب الذي لا يفضي لأي نهاية آمنة. في هذه الحالة، فبقدر ما يعذب النص القصصي صاحبه، يعذب القارئ أيضا حتى لا ينام على نظريات ما ..في أفق خلق مصاحبة بين النغمتين، نغمة النص الأول والثاني الموازي.

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى