الرحالة الفرنسيون في فلسطين والأردن: الشرق… نفي المتغير… وقيم الاختلاف والمشابهة

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

رامي أبو شهاب

 

تنطوي الرحلات التي قام بها الأوروبيون إبان التوسع الإمبريالي على عدد من الملحوظات التي تشي بتوجهات الرحالة لاكتناه بعض المناطق التي تنتمي إلى قطاع الآخر، أو الأطراف، وهنا نقع على تلك التوجهات التي تتخذ ثلاثة مظاهر، الأول: ينهض على الرغبة بالاكتشاف، وتلمس التجربة بما تحمله من معانٍ جديدة للفضاء الجديد، في حين أن الثاني يتعلق بنفي التصور المعرفي المسبق، وخلق رؤية بديلة تقوم على المعاينة، والوصف المحايد، والثالث يتحدد بمطابقة المتخيل، ولاسيما لما اختبر في الوعي عبر قراءات ومشاهدات، تنهض على تصورات مسبقة. وحين تكون المنطقة المحددة للاختبار إشكالية، وذات سعة تاريخية وجغرافية، بالتجاور مع وجود بعض القيم الدينية التي تضفي على المكان حضوراً مغايراً، ما يعني حضور ذلك التوقع القائم على الاختلاف المطلق، وشيء من السحر، والقيم الموجبة. ولعل الشرق الأوسط، ولاسيما فلسطين والأردن، قد خضع لهذه الرحلات التي قام بها عدد من الرحالة، والشعراء والفلاسفة الغربيون حيث كان بعضهم محملاً بتلك المشاعر الدينية التي يستشعرها الحاج الأوروبي عند توجهه إلى الأراضي المقدسة، ولكن ثمة أيضاً مشاعر أخرى كامنة، أو مخاتلة تعمل بمسلك طباقي بالتجاور مع الجوانب المعرفية والدينية. 

في كتاب «رحالة رومانطيقيون؛ يوميات ومشاهدات ـ فلسطين والأردن في كتابات فرنسية في القرن التاسع عشر» الذي نقلته إلى العربية مي عبد الكريم، نقع على تلك الكتابات التي وضعها بعض الرحالة والشعراء الرومانسيين في وصف رحلتهم إلى فلسطين والأردن، بوصفها مركزا دينياً. تتأسس تلك الرحلات على ذهنية قبلية منجزة، قدمت لها الرحلات الكلاسيكية، وهي تنطوي أيضاً على الكثير من الاستيهام، غير أننا نتجاوز ذلك لنقع على جزئية مهمة، تتحدد بمظهرين، الأول يتمثل بوصف الشرقيين، والعرب، ومحاولة تحليل وجودهم تاريخياً، واجتماعياً، وأنثروبولوجياً، في حين يتمثل المظهر الثاني في المقارنة بين هؤلاء الشرقيين بمن يماثلهم في الغرابة والاختلاف، أي من حيث كونهم يقعون في مدار الآخر، أو المختلف، وبعبارة أخرى غير الأوروبي.

يصل فرانسو رينيه الفيكونت دوشاتوبريان إلى يافا في الثالث عشر من أكتوبر/تشرين الأول 1803 ليمضي فيما بعد لزيارة كل من بيت لحم، والبحر الميت والقدس، ومن ثم يتوجه إلى الإسكندرية، وتحديداً في الواحد والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول، لا شك بأن لحظة الوصول إلى فلسطين حملت معها طابعاً طقسياً، ولاسيما عند معاينة جبل الكرمل، والساحل، فشاتوبريان يستحضر من سبقه من الأوروبيين، ونعني فرسان الحروب الصليبية، وهنا نقع على تلك السمة الدينية التاريخية في تشكيل التعالق مع هذا المكان، ونحو ذلك أيضاً ذهب كل من لوي غوست كونت دو فوربان ولامارتين، إذ أفاض الأخير بوصف بيت المقدس في سياق التصورات المسيحية النصوصية، كما فعلت أيضاً الكونتيسة دو غاسبران، بل أن من قام بواجب ضيافة شاتوبريان هم من الآباء في الكنيسة، وهكذا، فلا جرم في أن يصف شاتوبريان الاستقبال بالمسيحي، ولكنه سرعان ما يتجاوز تلك اللمحات الدينية، ليمارس وعيه الخاص بوصفه أوروبياً، حيث نقرأ وصفاً للجغرافيا، ولكنه يتمهل مطولاً ليصف عرب أريحا، والعرب عامة، أي عرب فلسطين، ومصر، وهنا نقرا حالة من المجانسة التامة لسكان قطاعات وجغرافيات متعددة، لنقرأ ما يقول شاتوبريان في هذا الشأن: «لقد بدا لي العرب حينما رأيتهم في جبال يهوذا وفي مصر، وحتى في البربرية طوال القامات أكثر من قصار القامات، وأنهم يسيرون بشكل متفاخر، وهم حسنو الخلقة، وممشوقو القوام، لهم بشرة بيضاء، وجبين عال، ومقوس، وأنف أقنى، وعيون واسعة ولوزية، ونظراتهم نديّة وعذبة إلى حد غريب».

لا شك في أن هذا الإطار الخارجي لعملية الوصف يبدو شديد العمومية، نظراً لكونه ينطوي على فعل من المجانسة، التي تبدو فجة جداً، فالعربي لا يمتلك هذا القدر من التوصيفات التي تبدو غير متسقة، فما بال أن تشمل تلك الأقوام التي تستوطن منطقتين مختلفتين، أو عدة مناطق مختلفة، ولكن ما هو أشد غرابة أن لدى شاتوبريان وعيا بأن العرب هم من الوحشية بمكان، بالتجاور مع قصص تتعلق بمسلكهم القائم على السلب، والنهب، وقطع الطريق، علاوة على نزعته لنقد اللغة العربية حيث يقول: «ولو أنهم أبقوا أفواههم مغلقة دوما لما دل شيء لهم على الوحشية، بيد أنهم ما أن يبدأوا الكلام حتى تسمع لهم لغة صاخبة، وملفوظة بملء النفس».

لا بد من الإشارة إلى أننا لا نعدم شيئا من تلك التصورات، ووجهات النظر، التي نقرأ فيها محاولة لخلق نوع من الحيادية في فعل الوصف، غير أنها ما تلبث أن تتداخل لتكون تطبيقاً لتصديق تصورات مسبقة، كما أنها لا تنطوي على حالة معرفية بمقدار ما هي فعل للمواءمة بين عدد من الآليات منها التصور والقراءة، والحالة الذهنية الساكنة في الوعي، فنحن نلمح لدى شاتوبريان إعجابا بالشرق عامة، والعربي خاصة، إلا أن هنالك نمطاً من التوحش، وفجاجة في اللغة، كما هي المرأة العربية التي يصفها بأنها تشبه تماثيل الكهنوت من حيث اتساق الملامح والجمال، ولكن هذا الجمال هو داخلي، نظراً لكونه مكسواً بالأسمال والأوساخ. هذه العناية بالمرأة الشرقية حاضرة لدى العديد من الرحالة، ولا بأس من أن نقرأ وصفا مسهباً وضعه لامارتين، يصف عائلة شرقية حيث يبدأ بوصف البيت المتواضع، ولكنه سرعان ما يصف جمال الأم وابنتيها الفاتن، ولكنه جمال متوقف صامت، أو ربما هو جمال قد انتهى بنهاية الحضارة التي انتكست إلى تشكيل بدائي، خام، أو هي لوحة نابضة بالحيوية الخرساء، إنها تكوين يعلق بالذاكرة والرأس، ولن يبرح من مكانه، ولهذا فقد تم تجميد الشرق وقولبته «أتت هاتان الفتاتان عند ذاك، واتخذتا مكاناً لهما بالقرب من أمهما على الأريكة المقابلة لنا. هذه هي اللوحة التي أريد التعبير عنها بالكلمات، لأحتفظ بها في المذكرات كما أراها في رأسي، فإننا لا نملك ما يجعلنا قادرين على الشعور بالجمال في كل درجاته ورهافته وغموضه، ولكننا لا نملك سوى كلمة مبهمة ومجردة لوصف الجمال. وهنا يكمن انتصار الرسم، فهو ينقل بضربة شديدة رشيقة ويصور قروناً عديدة». فجمال هذه الفتاة لا يمكن أن تصادفه إلا بالشرق، ولهذا يحال إلى تشبيهه بالجمال الإغريقي، فهو شكل ناجز، ومع ذلك فهو يحتوي على ذلك الإحساس بالبراءة، الذي فقد لدى الشعوب البدائية التي يقصد بها سكان المستعمرات الجديدة، أو الشعوب التي لا تمتلك إرثاً حضارياً، وهكذا نجد أن الشرق أضحى رهين الزمن، بلا تغير، وهو كذلك يتسم باستعلاء يتفوق على باقي الشعوب البدائية التي ينتمي لها، ولكنه محظوظ بشيء ما، هو بقية من تاريخ، وتشكيل ساكن من الحضارة البائدة. 

هذا النسق من التوصيف يتسع ليشمل اللباس، أو الزي العربي، فشاتوبريان لاحظ أن لدى العرب ولعا شديدا بالحكايات، وهذا يتضح من خلال وصف مشهد الرواية، وجلسة الاستماع، ونظرات الإعجاب والإنصات الذي يمارسه العرب تجاه الراوي، ولعل هذا يعني أن هنالك قيمة بتقدير العربي للحكي بوصفها نزعة خيالية، أو شكلا من الثقافة البدائية. ينتقل في ما بعد شاتوبريان إلى مقارنة العربي بالأمريكي، والأخير هنا لا يعني سوى السكان الأصلانيين للأمريكتين، ونعني الهنود والحمر حسب التوصيف الغربي، وهكذا يتساوى العربي والهندي الأحمر، ما يعني أن هنالك تصوراً، ومبررات منطقية لهذه المقارنة، ولعلها تبدو متمثلة بقيمة التخلف، أو التوحش، أي الإحساس بأن هذه الأقوام دون الأوروبي، وهذا يعني أن شاتوبريان انطلق من تصور هدم التشكيل، والتاريخ، لكل ما هو غير أوروبي، فالحضارة الهندية، أو السكان الأصلانيين في أمريكا، هم في المحصلة تشكيل حضاري وثقافي، مهما تواضعت أدواته ومنجزه، ولكنه يبدو غير معترف بها من وجهة نظر الأوروبي، ولكن البعد الحضاري والثقافي للعربي يمتلك تصوراً آخر. 

يقول شاتوبريان إنه درس الأقوام الأمريكية التي تعيش على حافة البحيرات، وهذا يعني أن الأوروبي هو في حالة معرفة، وبحث دائم في مواجهة للآخر، غير أن دراسته قادته إلى أن العرب هم جنس آخر من الأقوام البرية، وهنا ينبغي أن نتأمل في عبارة الأقوام البرية، أي تلك المناطق التي لا تخضع لتشكيل حضاري أوروبي بالتحديد. ولكن شاتوبريان سرعان ما يلمح أن خلف هذا التشكيل البدائي نمطا من العادات والثقافة التي ما زالت قائمة منذ عهد إسماعيل وهاجر، أي أن العرب قد توقفوا عن التقدم، أو الارتقاء، فقد تجمد بهم الزمن، وسكنوا في صورتهم النمطية، وهذا شديد الأهمية، فالفعل الحضاري بات رهين الماضي، الذي باد واندثر، وهذا مبعث اطمئنان الغربي، ومع أن العرب ما زالوا موجودين، وهم يتميزون بالرقة في سلوكياتهم، على الرغم من فظاظتهم، وهذا يعود لكونهم وجدوا، وولدوا في هذا الشرق الذي كان مهد العلوم والأديان، كما يقول شاتوبريان، وهنا نجد في هذا التوصيف أن هنالك مجتمعاً وحياة وإيقاعاً لدى العرب، أي أن ثمة تشكيلا حاضرا، في حين أن الكندي، أو الهندي الأحمر يعيش وحيداً في الغابة، يقتات اللحم، ويلبس جلد الدب، أي أنه في حالة اتحاد مع الطبيعة، بل هو جزء منها، فهو لم يسعَ بعد إلى تشكل أدواته، أو لكونه لا يلجأ إلى تقنين معاشه بالأدوات الحضارية، وهكا نجد أن كلا الفئتين، أي العرب وسكان أمريكا من الأصلانيين هما عبارة عن أقوام تمتلك تشابهاً عاماً من حيث كونها أقل من الغربي أو الأوروبي، ولكون هذه الأقوام تنتمي إلى الشعوب البرية، غير المتحضرة، ولكنها تتباين في تشكيلها، فالعرب أصحاب حضارة بائدة، في حين السكان الأصلانيين في أمريكا عبارة عن نتاج بدائي طبيعي بلا حضارة حقيقية، يقول شاتوبريان بهذا الصدد: «فإن كل شيء لدى الأمريكي يعلن عن البري الذي لم يصل بعد إلى حالة الحضارة، وكل شيء لدى العربي يدل على الرجل المتحضر الذي انتكس إلى الحالة البرية».

في كتاب «رحالة رومانطيقيون» نعثر على الكثير من النصوص التي تشي بتلك التصورات في ما يتعلق بالشرق في عيون الرحالة الغربيين الرومانسيين، ولا سيما الفرنسيين، وهي في مجملها تحتمل مركزية الوصف القائم على تجميد المشهد في حدود المتخيل، فالزمن في الشرق يبدو خارج المعادلة، فكل ما تبقى من الشرق هو محض، صور، ركام، خليط من السحر، والجمال، والتخلف، فضلاً عن بعض الممارسات الطقوسية، والحنين، وغير ذلك من توقعات الغربيين، ومع ذلك فإننا في قراءتنا لهذه الانطباعات التي أتى بها كل من شاتوبريان، ولامارتين، وفلوبير ورينان، ولوتي، وغيرهم، إذ لا يمكن لنا أن ننفي وجود فروق بينها، غير أنها تبقى في إطار تلك التوجهات التي تهدف إلى اكتناه المكان من حيث مطابقته، أو إعادة خلقه في حدود أخرى، ولكننا نتفق على أن تلك الرحلات تحتفي بالقيمة التي يعول عليها الغرب، بأن المعرفة لا بد أن تكون جزءاً من فهم ما خارج ذات الأوروبي المعرفية، ولهذا لا بد من خرق الآخر، وإخضاعه لغوياً، وخطابياً.

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى