الرواية العربية على حافة الحداثة

الجسرة الثقافية الالكترونية

في معرض تعليقه على نتائج جائزة البوكر لعام 2014 أطلق عبدالله إبراهيم مصطلح «الفصاحة السردية الجديدة». وقد قصد به توطين الروايات الفائزة ضمن الكتابة السردية التي تخطّت عثرات الكتابة السائدة في الرواية العربية، حيث أبان في المؤتمر الصحافي المنعقد في الثاني من فبراير/شباط، ومن خلال مقالات شارحة للمصطلح، أن الفصاحة التي يقصدها ليست فصاحة اللغة بحد ذاتها، بما هي وظيفة لغوية.. إنما بمعناها ووظيفتها التمثيلية، في ما يبدو إضافة تنظيرية للرواية العربية الحديثة التي بدأ الحديث عن بشائرها ومآزقها منذ ستينيات القرن الماضي، وكأنه يطرح بالفعل مفهوماً متحركاً للرواية العربية الجديدة.
أما المصطلح ذاته فيقوم، حسب رأيه، على أركان تتمثل في الأخذ بالطرائق المبتكرة في الكتابة، بما في ذلك الاستعانة بالتقنيات السردية الجديدة في تنظيم أبنية الأحداث والشخصيات، ورسم الخلفيات الزمانية والمكانية، وتعميق وظيفة التمثيل بما يشفّ عن المرجع، بحيث يتداخل الأمران، الخيالي والواقعي، فلا سبيل لفك الصلة بينهما إلا على سبيل التأويل، وابتكار لغة سردية محكمة ومكثّفة تتصل باللغة المرجعية وتنفصل عنها، وإطلاق نوع من الخيال الجامح للارتقاء بالأحداث إلى مستوى عال من الإيحاء الدلالي، ثم بناء عالم افتراضي متماسك مواز للعالم الواقعي يلتهم أهمية ذلك العالم، ويجعل من نفسه العالم الأهم، مع الحرص على مدّ الصلة بين العالمين بتمثيل شفاف.
ولا شك أن أطروحته التي لا تنسف المدونة السردية العربية القائمة، بقدر ما تسعى لتنشيطها، جديرة بالدرس والتأمُّل، خصوصاً مع وجود نماذج روائية تطبيقية يمكن أن تعطي للمصطلح شرعيته التنظيرية، وتفتح في المقابل إمكانية تجديد الجدل حول الرواية العربية، التي يتمحور السجال دائماً عن مديات تحديثها بمزدوجة الشكل والمضمون، حيث تتركز البحوث والدراسات حول ما تم إنجازه في هذين المدارين. إلا أن الحديث عن ممكنات تطور الرواية العربية يستلزم بالضرورة البحث في علاقتها بالتراث السردي العربي من ناحية، أي مبررات وأساسيات الفعل الروائي، وكذلك مدى ارتباطها أو تأثرها بالرواية العالمية. فمجرد طرح موضوع الحداثة في الرواية العربية، يعني الرغبة في تجاوز السائد، أو عدم الرضى عن المنجز مقابل معيارية متعالية في كتابة الرواية.
إن مصطلح الرواية الجديدة لا يعني ضرورة وجود إطار مدرسي لجيل أو جماعة، بقدر ما يشمل كل من يحاول البحث عن أشكال وطرائق كتابية أحدث وزعزعة الأصول الكتابية المعتادة. وعليه، فإن السعي لإنتاج رواية عربية بمواصفات حديثة يؤكد وجود موقف نقدي من المعروض الروائي، إذ لا يخفى أن أجيال الرواية قد كتبوا الروايات ضمن مدارات من التأثر، سواء بالرواية الفرنسية أو الروسية أو الإنكليزية أو الأمريكية، وفي مراحل لاحقة برواية أمريكا اللاتينية.. وهو أمر طبيعي، فالرواية قد تتولد في مكان إلا أنها تنتسب إلى مكتسب إنساني أشمل وأوسع. بمعنى أن مفهوم الرواية العربية لا يكتمل إلا على قاعدة التأثر والتضايف مع المنجز العالمي، أي من خلال ذلك الحبل السري الذي يشدها إلى صيرورة تطوره، إلا أنه لا يُرى بذلك الشكل الفاقع.
وعلى هذا الأساس لا ينبغي النظر إلى مفهوم الرواية العربية إلا من منطلق إجرائي. لأن الرواية العربية ذاتها على درجة من التشظي والاتساع. وشروط إنتاجها تختلف من قطر إلى آخر، وذلك وفقاً لمرجعيات سوسيولوجية ضاغطة، بل حتى داخل القطر الواحد، وذلك نتيجة وجود تيارات أدبية متخالفة. كما حدث – مثلا – لحظة ظهور مصطلح «الحساسية الجديدة»، التي تشكل حلقة من حلقات تحديث الخطاب الروائي، بمعنى أن تطوير الكتابة الروائية يستلزم بالضرورة وجود حركة أدبية ذات ملامح.. بغض النظر عن صوابيتها أو براعة المنتمين إليها، كما حدث في حالة الرواية الفرنسية الجديدة.
وهذا البحث يقتضي وجود تجربة روائية غزيرة الإنتاج، بجماليات واضحة ومعلنة، بالإضافة إلى مضامين فكرية تحفّ بالتجربة وتوسع مسارات حركتها، لأن إنتاج رواية تجريبية بمجهود فردي تحايث منجز الآخر، لا تحيل إلى حركة أدبية واعية، بل تؤكد حالة الاقتداء والتقليد بمعنى أن الروائي العربي لا يحتكم إلى مظلة تنظيرية، بقدر ما يلهث وراء الإنتاج لمجرد الإنتاج، حتى النقد الروائي الذي ظهرت ملامحه بقوة في الربع الأخير من القرن الماضي، لم يتمكن من اللحاق بظاهرة ارتفاع منسوب المنجز، وبالتالي عجز عن التفاعل مع مقترحاته الفنية.
يتأكد هذا المنحى من خلال كثافة الإنتاج في العالم العربي، خلال العقدين الأخيرين، سواء على مستوى المنتج العام، أو ما يؤديه الراوئي كفرد، حيث يزدحم المشهد بمنتجات روائية يصعب الإلمام بها حتى على المستوى الفردي هناك غزارة إنتاجية لا تسمح للروائي نفسه بمراكمة الخبرات أو حتى التفكير في رواية أكثر حداثة، سواء على مستوى الشكل أو المضمون، يدفعه ناحية ذلك الإنتاج الكمي، بريق الجوائز، التي صارت تشكل حافزاً سنوياً. ومجانية الحضور الإعلامي، حيث النجومية، بالإضافة إلى تراجع دور النقد، الذي لم يعد مرغوباً فيه، في ظل وجود قارئ جديد هو الذي يحدّد مقروئية الرواية وجدارتها بالحضور في السوق الجماهيري.
إن مظاهر النشاط الروائي لا تشير إلى حركة أدبية ذات ملامح يمكن بموجبها استيلاد رواية حديثة بالمعنى الفني للكلمة، بقدر ما يزدحم المشهد بالمحاكاة والتنميط والإبقاء على الأدوات التقليدية القديمة لكتابة الرواية. فهناك جهل واضح بقوانين الحداثة وتقاليدها السردية، وقلة هم الذين حطموا بكتاباتهم الهياكل التقليدية للرواية. وذلك على المستوى الفردي، وليس ضمن جماعة أو تيار أدبي. وهو أمر يمكن استيعابه، نتيجة وجود قارئ قادر على تمكيث الأساليب المستهلكة ودخول أعداد غفيرة من قراء الرواية في مطبخ كتابتها وإنتاجها، بدون أدنى خبرة فنية أو أدبية.
هؤلاء لا يُعتد بهم عند مساءلة المنجز، أما من تم الاعتراف بهم كروائيين لعقود فمعظمهم يعيشون في معزل عن التجريب وابتكار أساليب سردية جديدة، إذ لا يشكل مفهوم أو مصطلح (جيل الستينيات) الهلامي، سواء في مصر أو العراق، أي قيمة تُذكر في هذا الصدد. على الرغم من الهالة التي كانت تحيط بأسمائه، باعتباره الغصن الذهبي للإبداع عموماً، وذلك مقارنة بمصطلح (الحساسية الجديدة) الذي لا تتم مقاربته على مستوى الإنجاز الروائي إلا من منطلق اقترانه أو مقارنته بمنجز الآخر الغربي، في تأويلات تصفيحية تفتقر إلى المنهجية، إذ لا يكفي أن يعلن هذا الروائي أو ذاك عن انتمائه لحركة التغيير في الكتابة الروائية، بدون أن يكون له ذلك الرصيد التحديثي.
إن عدم قدرة الروائي العربي على تطوير طرائقه في مقاربة الرواية ناجم عن عطالة حداثية، وليس عن ضعف لغوي أو أسلوبي، فمنذ زمن بعيد يستدعي النقاد والروائيون العرب المفصل الذي أسس للرواية الحديثة، المتمثلة في اعترافات جان جاك روسو الأوتوبيوغرافية ويقدمونها كدليل على أهمية محكي الذات في كتابة الرواية، إلا أنه منذ تلك اللحظة وإلى اليوم لا يوجد في سجل الرواية العربية ما يشير إلى فهم واستيعاب خطوة روسو، أو جرأته التي تم بموجبها تقعيد الفعل الروائي. وكأن الكتابة الروائية والتنظير العربي يسيران على سكتين متغايرتين، وذلك باستثناءات قليلة جداً. في الوقت الذي استكملت فيه الرواية الغربية تلك التنظيرات بما يُسمى (الما بين) أي الكتابة التي تراوح ما بين الذاتي والسيري، وتوطين الذات في الموضوع أو ما تم الاصطلاح عليه بالتخييل الذاتي.
أما دعوات الاغتراف من الموروث وإعادة الإنتاج، فهي مجرد مراودات لتأصيل الفعل الروائي العربي، وقطع الحبل الذي يوصله بالأدب الغربي الحديث.. وهي أدائيات لا ترقى إلى التجريب الذي تؤديه آداب ما بعد الحداثة، التي تقوم على فكرة الاستحواذ على الأصل والتنويع على ثيماته، لأن الاتجاه السائد في الرواية العربية هو الاتجاه التوفيقي، الذي يقوم على خلائط من الواقعي والرومانسي والتاريخي والاجتماعي، بالإضافة إلى جملة من الأمراض الكتابية المزمنة التي تستبقي كل القديم تقريباً. فيما تشترط الرواية الجديدة أن يكتبها إنسان جديد في وعيه ومداركه ووجدانه، وهي منذورة لذلك في الآن نفسه، أي خلق إنسان جديد.. بمعنى أنها حركة توحد مجموعة من الروائيين في مشتركات مبدئية ومفاهيمية حول ما يفترض أن تتضمنه الرواية الجديدة من معان ودلالات

….

القدس العربي .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى