السكر المسحوق

الجسرة الثقافية الالكترونية

*اشرف شتيوي

المصدر / القدس العربي

بعد انقطاع طويل عن مقهى ام كلثوم بوسط البلد شارع عرابي الذي أفنيت فيه دهراً أجادل في أمور الادب والفكر، ها أنا أعود إليه مرة أخرى، وقد تخلصت من ثورة اللسان الثرثار، ومن رفاق اكتشفت أنهم لم يحسنوا شيئاً في الحياة، حتى الكلام كانوا فيه من المتطفلين.
هذه المرة اجلس الى الطاولة في وقار نسجته من حولي طرقات الايام الماضية، لم أكن أريد أن أتذكر بل لم أكن أريد أن أشاهد الماضي الذي يلمع في كل ركن من هذا المقهى، فكنت انسجت منه بمراقبة المارة خارجاً، فجأة وضع امامي فنجان القهوة وكوب الماء، أنتبهت فإذا هو الجرسون …..
مازال هــو …. هو عم (علي) نحيل .. يميل إلى السمرة، لم يتغير كثيراً ولكن للزمن بصمته على وجوه الفقراء، لقد غزا الشيب شعره، بل امتد الى لحيته الخفيفة، هو دائم الابتسام رغم ما يلاقيه من زبائن المقهى، مازال يعرف طلبي، شكرته وسألته عن حاله، فأجاب كالعادة (الحمد لله) .
عدت هذه المرة أتلهى بالقهوة الموضوعة أمامي، فهذا الجرسون كاد يغريني بالماضي الذي حاولت جاهداً أن لا توقظه بداخلي موجودات المقهى، ، لفت انتباهي السكر المسحوق، لقد صار السحق طبيعة فينا، متعلقة بنا كأحد أعضائنا، نمارسه في سادية بلهاء ونحن نضحك، ويمارس علينا بشكل جعلنا لا نشعر به.
لا ضير أن يعبر أصحاب المقهى عن واقعنا بما يحسنون، وحتى ان لم يدركوا أنهم تكلموا في السياسة لانهم لو أدركوا ربما سنشرب القهوة مرة!……
لم تكد الرشفات الاولى تملأ فمي، حتى وقعت عيناي على ذلك الكائن الذي كاد أن يتكور على بعضه بعضا، لم يكن هذا الكائن سوى عجوز منبعثة من ماض سحيق، أحناها الزمن انحناءة مقيتة، فجعلها في وضع الركوع الدائم، ربما كانت يوماً فارعة الطول، فأراد أن يلعب معها لعبته المعتادة مع الذين يطيلون المكوث فيه، بل زاد على هذا أن شوه وجهها حتى اختفت تقاسيمه وراء تجاعيد كثيفة متجاورة، الا أن بقايا وشم قديم مازال يلوح على ذقن متهالك عله يرمز الى جمال بائد.
كانت تسند جذعها المقوس الى عصا حديدية، تثقل مشيها أكثر من أن تساعدها على الوقوف، وقد عبرت أسمالها عن مقدار فقرها واحتياجها، كانت تطوف بين طاولات المقهى تسأل الناس، حتى اذا وصلت إلينا طلبت مني أن أدفع لها ثمن العصير، فكان ما طلبت، كانت تجلس الى طاولتي وهي تحدق في كوب العصير مبحرة بعينيها في صفرة مائه، أو انها ترى في سطحه أشياء من ماضيها البعيد، وكانت تطول تذوق ماء العصير حتى تستنفد طعمه الحلو، ربما تحاول ان تلطف فعل الزمن بها بهذا الفعل الذي اشمأززت منه بادئ الأمر، وعلى حين غرة رفعت رأسها نحوى قاطعة تأملها، وسألتني ان كنت متزوجا؟
استغربت من هذا السؤال بل من هذه العجوز المتهالكة …
ما شأنها وأمر الزواج؟ ولكنني على اي حال أجبتها بالنفي، لم تستغرب الامر رغم أن ظاهر شكلي يدل على أن سن الزواج قد غادرني منذ زمن بعيد، فعادت إلى تأملها بعد أن قالت بصوت خفيض.. مازلت يا بني تعيش داخل ذاتك….
المقهى بكل موجوداته، التي تحتقن بأيامي الفائتة، لم تستحث بواطني كما فعلت هذه الكلمات غير المبالية، لقد استطاعت أن تسرب انحنائها الى نفسي، الانحناء الذي لازمني دهراً من دون ان أدركه، بل أنه يلازم أكثرية هذا الشعب السائم، ما أهون أن يكون انحناء في الجسد مثل هذه العجوز، ان الداهية أن يكون في النفس والروح …
نعم انها الداهية التي تجعلنا نعرف الاستقامة، والتي تمنعنا من رؤية الاشياء أمامنا لأننا دائما نمشي ونظرنا منسحب الى الارض .
خرجت من المقهى مخلفاً ورائي ذلك الكائن المنحني.. بل ذلك التعبير الواقعي عن حالنا، خرجت مستثارا قد تغير وجهي، وزادت نبضات قلبي، أشعر بأن تقوساً مريعاً بدأ يعاود الظهور بداخلب بعد أن تخلصت منه، كنت أظن أنه غادرنب بلا رجعة، ولكن الحقيقة أنه توارى وراء ستار البعد الذي مارسته منذ سنوات خلت. تهت في شوارع المدينة كأنني أتصيد فيها الشعور بالانحناء الذي كشفته بداخلي عجوز ليست من هذا الزمان، وأرمي به داخل نفسي كي تزيد اشتعالاً..
أتذكر الآن جيداً هزائمي المتكررة، وفشلي الابدي، أتذكر تفاهتي المتحفزة، بل أني أرى بدائع صنعي في اخفاء الحقيقة، اتذكر دور البهلوان الذي لعبته مظهرا الوقار والمشيخة، وأتذكر أيضاً الدمى المتحركة التي جالستني، وأمنت على كلامي حينا وخالفته أحياناً مدعية حرية الرأي والاستقلالية، وهي في الحقيقة مجرد فراغ ناقل لصدى غيرها، على استعداد أن تلعب الف دور من غير حياء.
مازال الانحناء يكبر بداخلي أكثر فأكثر، كلما أوغلت في المشي، كنت أشعر بأن الطريق تخرج من تحت أقدامي لتمتد أمامي في غير نهاية معلومة، كأنها تتقصد تعذيبي.
ها أنا أرى على ابواب المنازل صور الذين شاركوني في الماضي وقد حصلوا على مناصب مهمة في الدولة، تحت أيديهم أقدار شعب كامل، يأمرون وينهون وقد استعاروا مكان الاله، بل الناس من زيفوا لهم هذا المقام فصدقوا الزيف… ولكنهم حكموا بالواقع.
هم اشخاص يعانون من الانحناء مثلي وربما أكثر، هم كائنات تغدت على موائد النفاق ومردوا على العيش في الافكار العفنة انهم يعشقون العفن….
فكيف يحكمون، كيف يقدمون الفضيلة للناس على صفحات الجرائد، ويعظون الخلائق من على المنابر في أردية بيضاء ملائكية تخفي سوادهم، كيف… و كيف…
أنا منهم أعرفهم ويعرفونني، مارسنا السباحة في القذارة، كنا نتلذذ في عصر الصديد، ونصنع المبادئ للناس، فاذا عبدوها كعادتهم، ملكناهم بها، جعلناها سوطاً على الظهور، وكمامات على الأفواه، صنعنا المدن الورقية وسجناهم فيها.
يوماً من الايام بُعث ضميري من رقدة طويلة، بعد أن تدافع التعب الى جسدي، ترامت لي حديقة صغيرة، فانعطفت إليها، واخترت منها شجرة صنوبر قد شاخت، جلست تحتها كطفل يتيم يقلب ناظريه في شفاه المسؤولين عنه ينتظر ما يكون حكمهم فيه.
عاود الانحناء تململه بداخلي، يمارس وخزة المقيت في جنبات النفس، يرسلني بقذف قاس الى يوم هبت بقية من دعوة أمي فاجتمعت بهم علنا نستطيع الاغتسال من قذارتنا المزمنة، ضحكوا بل قهقهوا مشرعين أفواههم لارى من خلالها كم السم الباقي الذي مازالوا يحتفظون به لغيرهم، حاولت أن أجد نقطة ضوء مثل التي لمعت بداخلي… لم أجـــد .
بعد أن ضحكــوا.. هددوا.. ثم لمحوا الى سهولة نهايتي….
هاجرت……
جبان أنا…. ولكن لا غرابة… عادتي وعادتهم….
استطعت أن ارتد الى حاضري وأحس بجذع شجرة الصنوبر يلامس ظهري، وبمجرد أن رفعت بصري الذي دفنته بين الحشائش حتى وقع على العجوز نفسها بنفس الانحناء جلست قبالتي وقد تناولت قطعة خبز وقليلا من الجبن، لم تهتم لنظراتي التي كنت أصوبها نحوها متتابعة لعلني أخترقها الى السر المتواري خلف جذعها المطموس المعالم.
بعد أن أنهت أكلها الثقيل، تقدمت نحوي وسألتني الصدقة، لم أرد عليها، بل بقيت أرمقها في ذهول، لم تلح في سؤالها وكل ما فعلته قبل رحيلها هو همسها بنصيحة: يجب أن تستفيق.. قررت خوض المعركة، بدأ الانحناء يتلاشى …

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى