الشاعر التونسي فتحي النصري: عالم الأشياء / ترياق ضدّ الخرس

الجسرة الثقافية الالكترونية

*منصف الوهايبي

المصدر / القدس العربي

«سيرة الهباء وقصائد أخرى» و«قالت اليابسة» و«أصوات المنزل» و«جرار الليل» ومنمنمات « و«مثل من فوّت موعدا/ تخطيط لكتابة الظلّ» للشاعر التونسي والجامعي فتحي النّصري؛ مجاميع تشكّل مجتمعة كتابا شعريّا متميّزا، وتبني عالما له واقعه الخاصّ وقوانينه الخاصّة. هو باستثناء قصائد قد تكون قليلة، عالَم الأشياء «الأبكم» و«الأخرس»الأشياء المنذورة للهباء والصّمت.. الأشياء التي تجهل أسماءها؛ فإذا الشّاعر يؤدّي «عنها» أكثر ممّا يؤدّي «بها»، أو هو يستنطق خرسها؛ وكأنّ القصيدة لديه ضرب من «الدّبلجة» دبلجة الشّيء أو تبديل لغته أو إحلال النّصّ محلّه، أو هي «ترياق ضدّ خرسه أو صمته». وباختصار فإنّ الشّيء كما أحاول أن أبيّن مستأنسا بـ«سيرة الهباء»- سؤال مضمر جوابه نصّ يتنخّل العبارة؛ وكأنّ الشّاعر يقيسها بالفرجار، عسى أن تحوز الكتابة خصائص الشّيء نفسه أو شعريّة بنيته لا محتواه؛ في سياق لعلّ من أظهر دلالاته عند فتحي النّصري كما هو الشّأن عند أكثر الشّعراء المأخوذين بالأشياء – تعزيز التّسمية وتقوية الإحساس بها أو تكثيفه، بكلّ ما يمكن أن تفضي إليه هذه التّسمية من تثبيت الوجود وسدّ ثغراته ومهاويه.
تبدأ القصيدة عند فتحي من لحظة «سديميّة» غامضة تُتّخذ موضوعا للمعرفة أو مصدرا من مصادرها.. لحظة لا هي بالواقعيّة المحسوسة ولا هي بالذّهنيّة؛ إنّما هي «ذاتيّة» التّكوين أعني ذات وضع أنطولوجيّ خاصّ تتركّب في «واقعيّة كلاميّة» متخيّلة. ولعلّ هذه الشّواهد القليلة أن تعزّز ما أنا فيه من أمر هذه اللّحظة التي تضفي على الواقعيّة الشّعريّة ثلاث سمات: أوّلها تماسّ لغويّ مادّي أو نفسي وجدانيّ، وثانيها «شيفرة» تؤطّر الحدث الشعري، وتحول دون انسياحه وتشتّته، وثالثها سياق لغويّ يشير إليه الحدث، دون أن يكون سياقا خارجيا بالضّرورة. ففي قصيدة «فاتحة» وهي فاتحة المجموعة؛ تتشكّل اللّحظة وكأنّها كلام على كلام مقدّر محذوف، أو نصّ على نصّ مضمر.
«لا جدوى من الذّهاب هناك لا عزاء في البقاء هنا…» إذ تتسلّط «لا» (والنّحاة يسمّونها «لا» للتّبرئة) على الجملة الشّعريّة، وتنهض في سياق القصيدة بأكثر من وظيفة: فهي عاطفة نحويّة تردّ المتكلّم/السّامع «عن» وهم أو حلم «إلى» واقع، وتنفي الحكم عن المعطوف لتثبته للمعطوف عليه؛ مثلما هي نافية للجنس والوحدة في ذات الآن، وللمكان والزّمان معا. فـ»هناك» إشارة إلى المكان المتوسّط لا البعيد، و»هنا» إشارة إلى المكان القريب. على قدر ما هما يضمران إشارة خفيّة إلى الزّمان بدلالة الحضور والاستقبال معا، كما تدلّ على ذلك خاتمة القصيدة «… ولعلّ الآتين لا تكون عزلاتهم أشدّ وطأة». فـ«لعلّ» تقطع تسلّط «لا» لتستأنف كلاما جديدا قائما على التّوقّع في الممكن أو التّرجّي في المتعة والإشفاق من العزلة؛ بالرغم من أنّ دخول «لا» على «لعلّ» قد لا يكون سائغا نحويّا. ولكنّنا نسوّغه شعريّا، لأنّ الوظيفة الشّعريّة؛ في«لغة الشعر»أميَل إلى الأخذ بالاحتمالات الرّأسيّة (الصّرف) منها إلى الاحتمالات اللّغويّة الخطّية الأفقيّة (النّحو)، أو هي تحلّ البعد الصّرفي والاستعاري في اللّغة محلّ البعد النّحوي، بواسطة تأكيد تماثلات الصّوت والإيقاع والصّورة التي تكثّف اللّغة؛ فتصرف الانتباه إلى خصائصها الشّكليّة وليس الإسناديّة. وما بين «لا» في فاتحة القصيدة و»لعلّ» في خاتمتها ينهض عالم متحرّر من رقّ المكان والزّمان، وتنبني الصّورة من حيث هي نفي نفي أو نقض نقيض، فـ«لا جدوى» تعادل «لا عزاء»، و«الذّهاب» يعادل «البقاء» و«هناك» تعادل «هنا».
ولا الزّمان محدّد ولا المكان ولا المتلفّظ الذي يحيل على ذات جمعيّة غير متعيّنة. إنّما هناك شموليّة تؤدّي وظيفة تأثيريّة، هي شموليّة الغموض وتأثيريّته، وهما ملمحان يكادان يكونان ملازمين لأكثر شعر فتحي النّصري. ملمحان يتحدّدان أكثر على أساس قانون الإدراك أو ما يسمّى قانون الصّور/العمق.ففي «كلمات لا تتبرّج» وهي تبدأ مثل سابقاتها من لحظة «سديميّة»: «من زمن راسب في البداية». أيّ زمن؟ أيّة بداية؟ تطّرد سمات الواقعة الكلاميّة الشّعريّة من تماس وشيفرة وسياق، لتتظافر في صياغة المعنى الكامن في الجملة/القفلة من الواقعة: «الكلمات تكره الاستعارة». وما بين هاتين الجملتين يتميّز صوت المتكلّم عن صوت الأمّ، مثلما يتميّز مجال سمعيّ عن مجال بصريّ. وكلّ منهما إذا استعرت عبارة ج. كوهين- يشكّل جوهره ممّا لا يوجد في جوهر الآخر. وهما معا يتمثّلان مجملا أو وحدة باعتبارهما جوهرين متّصلين متقابلين؛ فقوله: «لا ترْتدِ ثوب أخيك… » يعادل قوله: «الكلمات لا تبدّل أثوابها». وبالتّالي يُلغى الفرق وتنشأ شموليّة متجانسة توحّد بين بصريّ (الثّوب الحديقة النّعناع الأرض) وسمعيّ (الكلمات)؛ أي بين مكانيّ وزمانيّ متراخيين، مثلما توحّد بين الثّوب والاستعارة. ولكن شريطة أن نميّز بين استعارة لغويّة بالية (اضطراريّة مثل رِجل الكرسيّ أو عنق الزّجاجة) وأخرى جماليّة نوعيّة تجعل الشّيء «يغتسل في ماء جديد». وهي التي نقف عليها في المجموعة كلّها. وفيها وبها ينشأ الموضوع الشّعريّ ويتحدّد. وإنّه لمن اللاّفت أن يهيمن التّعبير الاستعاريّ في هذه المجموعة؛ من حيث هو طريقة في مقاربة الشّيء أو الموضوع. وربّما استثنيت قصيدتين اثنتين يهيمن فيهما التّعبير الكنائيّ الرّمزيّ هما : «هلوسات موريسكي من القرن 15» و«خريف الخوارج». فهما تنضمّان إلى«قصيدة القناع» التي تشكّل نمطا شعريّا «مألوفا» في المدوّنة الشّعريّة العربيّة الحديثة، يقوم على الرّمز. والرّمز لا يكون إلاّ إذا انفصل عن ذاته، وتَقَوَّضَ لكي يعاد بناؤه من حيث هو رمز ذو وجهين: وجه الدّال ووجه المدلول اللّذان يتمثّلان «رمزا فوقيّا». فالقناع واحد وثنائيّ في ذات الآن: هو واحد من حيث انشداده إلى دالّ (تاريخيّ أو تراثيّ). وهو ثنائيّ من حيث أنّ مدلوله يستدعي دالاّ ما آخر (من الحاضر). وفي ما عدا هاتين القصيدتين، فإنّ اللّغة الشّعريّة في «سيرة الهباء» وهي استعاريّة كما أشرت؛ تتمثّل «مضادّا رمزيّا» ينجم عنه تغيّر في شكل المعنى وليس في محتواه. وأقدّر أنّ هذه مزيّة تصل شعر النّصري بالأحدث في المدوّنة الشّعريّة العربيّة المعاصرة، وتحرّره من سلطة التّماثل والتّشاكل والصّيغ والرّواسم المكرورة. فقصيدة «صرصرة» على سبيل المثال تعزّز الجوهر التّعجّبيّ في الشّعر، وتصنع ما يسمّيه «ميرلونتي» الكلمة-الصّرخة وهي تنشد في هذه الحشرة كنهَها أي «صرصرتها» وتقول «الحشرة» دون أن تستثير «اللاّحشرة». وكذلك الشّأن في «رؤيا الغراب» حيث يستنطق الشّاعر شعريّة اللّغة أو «شعريّة المعجم»، فالغراب الأعصم وهو الغراب الذي في أحد جناحيه ريشة بيضاء (وهذا الوصف في الغربان عزيز لا يكاد يوجد) كما يقول صاحب اللّسان؛ يغدو «حلم الغراب». وقد كتب الشّاعر الفرنسيّ الفذّ «فرنسيس بونج» معترضا على «ج. باتاي» الذي كان يخشى الجنون في تأمّل حشرة مثيرة وعلى «ميشو» الذي يقول إنّه ظفر بعد عشرين سنة بالسّرّ.. أن يكون في قلب تفّاحة: «إنّ ما ينشده الشّاعر هو كتابة نصّ يمتلك خصائص هذه الثّمرة». وأقدّر أنّ فتحي النّصري، وهو المأخوذ بالأشياء (الباب الأزرق الصّورة المثبتة في الجدار الجورب الرّماديّ… ) له من الفطنة النّافذة ما يجعله يدرك أنّ شعريّة الأشياء تجلو الشّيء في مجلى الكلّية النّهائيّة، وتحرّره من «الوجود داخل الكون» لتبني وجوده في «كونه الخاصّ».
هذا الشعر هو أقرب إلى نمط «القصيدة الموضوعيّة» التي هي محصّلة «أنا» أخرى غير تلك التي يعيشها الشّاعر في واقعه أو مجتمعه؛ فثمّة مسافة بين الشّاعر وخطابه، وكأنّ صوت الشّاعر صوت ثانٍ، أو هو في حالة حلم فاعل، إذ يترك للمتخيّل أن يفعل فعله في الكلمات وهي تتدافع وتتجاذب،أو هي تنفي ذاتها في فعل خلقها، أو تتكلّم على إثر ما تقوله اللّغة بصوت خفيض أو بصمت أقلّ.والحقّ أنّ هذا الذي نحن بصدده،لا يتوضّح من قصيدة واحدة،وإنّما من خلال نصوص الشاعر كلّها وخاصّة كتابه الصادر هذا العام«مثل من فوّت موعدا/ تخطيط لكتابة الظل».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى